جدل الصوفي والجمالي في «كبرياء الموج»

  • 5/4/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عبر أربعة عشر مقطعاً سردياً تتجادل في ما بينها على طريقة الكولاج، تأتي رواية «كبرياء الموج» (الهلال) للكاتبة المصرية انتصار عبدالمنعم، وكل منها يشكل جانباً من جدارية السرد، وتمكن قراءة بعضها على نحو منفصل. يمتح النص من المخزون الصوفي، عبر روح مترعة بالرغبة في الوصال، مسكونة بـ «المحبة، والشوق، والعشق»، وغيرها، من العلامات الدالة على هذا النزوع الصوفي في سماحيته وسكونه أيضاً، حيث يحضر في النص متصوفةٌ من أمثال أبو العباس المرسي، وأبو الحسن الشاذلي، والسيد أحمد البدوي، ما يفتح جغرافيا السرد على آفاق رحبة، تبدأ من الإسكندرية وتطوف صعيد مصر ودلتا النيل. وتتنوع التناصات ما بين الشعري مع جلال الدين الرومي، والقرآني الحاضر في أكثر من مقطع، ليصبح جزءاً من آليات علاقة الكتابة باللغة، فيما التعبيرات تتصل بهذا النزوع الصوفي المهيمن، لنجد جُملاً من قبيل: «فكشفنا عنك غطاءك، موج من فوقه موج». يغرق العنوان «كبرياء الموج» في المجاز والغنائية، مثلما تغرق الرواية أيضاً، عبر استحضارها الصوفي بوجده، وشجوه، ونزوعه اللغوي المنفتح دلالياً. فاللغة هنا ليست محايدة، لكنها تشكل دوائر من المعنى، بدءاً من افتتاحية مشغولة بالتناص القرآني، لكنها تخرج بالتناص إلى دلالة مغايرة. هنا تتواتر اللغة وتتدفق بمجازيتها وغنائيتها واستدعائها للمتصوفة وعالمهم، ونرى أفعال السرد المنتج هنا بإيحاءاتها الصوفية واستلهامها من المعجم الصوفي ذي الإحالات المختلفة للكلمة: «أنزلق وكأني أغوص، لا ألمس ماءً، ولا تصل قدماي إلى قاع ما. ربما كنتُ أصعد، فلا حاجز ولا عائق، ومجال الرؤية على اتساعه بداخلي. تتجلى لي عباءة أبي العباس المرسي، وتستحيل براقاً أرتقي عليه، وأنظر إليّ من بعيد. كم أنا وحيدة ضعيفة» (ص9). وتتواتر الصور البصرية التي تشي بحال من التقاطع بين الحضور والغياب، الوجد والسهاد، الوجود والعدم، «وأنا مثل عصفور خيّروه بين الطيران في قلب الشمس، أو الحياة بين مخالب أسد» (ص10). تتوازى حركة الذات الساردة اندفاعاً وهبوطاً مع حركة الموج، إحساساً وقلقاً، تدفقاً وكتماناً؛ «غبتَ يا حسن عن ناظري ولم تغب، كلما تهادى الموج أسمع صوتك، أرى صورتك حين يرق البحر يعانق شاطئه العطشان» (ص12). وتحضر شخصية «الغجرية» بوصفها جزءاً من عالم العرّافات الشائع في الثقافة الشعبية لتحيل حلم الذات الساردة إلى جحيم، فالفتاة التي غاب حبيبها «حسن» عنها، مقبلة على الموت، على الذهاب لحابي، إنها حورية بحر جديدة، قربان آخر في عالم مسكون بالقسوة والعتامة، تغالبه الكاتبة بمزيد من الاستبطان للداخل الإنساني في علاقته المحدودة بجانب من العالم، وبنزوع تختلط فيه المحبة بالاشتهاء، فكلاهما وصول، وارتقاء صوب الدرج، صوب المقام الأبهى. ولذا فإن الساردة التي تبدو مثل هشاشة «الفريسكا»، ترى هذا الحبل السُري بين المحبة والاشتهاء، وهو فهم إنساني من جهة، وواع بجوهر التصوف من جهة ثانية. ثمة ذات تصالحية مهيمنة على النص، تنتج جمالها الخاص، تبدو على المستوى النفسي توّاقة للخلاص، لاكتمال الأشياء الناقصة، تحيا عالماً مبتوراً، بدءاً من علاقاته الاجتماعية التي تهشّمت بموت «حسن» ورحيل «زينب»، إلى علاقاته العاطفية بدءاً مِن رحيل فتى المدرسة الابتدائية، ثم تغيره، فكل شيء معلّق، كل شيء واقف على حافة الموت والحياة، الحضور والغياب، وهما ثنائية تتكرر كثيراً في النص. توظف الكاتبة في روايتها المونولوغ الداخلي الذي يهيمن على مساحات متعددة من السرد، كما يهيمن الفقد على النص، فضحكات «العمّة بسيمة» لم تكن تكفي- على رغم جمالها الإنساني- لإزالة وجع البعاد الذي خلّفه زينب وحسن. وفي نص لا يتبع البناء الشكلي التقليدي لن نجد زمناً خطياً تتابعياً، لكن سنجد تداخلات زمنية، وأمكنة متغيرة، فمن الإسكندرية إلى إدكو ورشيد إلى الرياض، ولو أن هناك مساحات أعمق مِن التصور عن البيئات المختلفة كان يمكن حضورها في هذا السياق، لكن يبدو أن الكاتبة مشغولة أكثر برصد تباينات النفس البشرية، بامتلائها بالفقد، وامتلاء بطلتها به. ثمة إحساس عارم بالخديعة، بالخِسة التي تملأ العالم، والتي ترتفع فوقها الساردة بكبرياء يشبه كبرياء الموج؛ في صبره وتواتره؛ ووثوقه أيضاً. في فصل «مدرسة الشعب الصباحية» تتنوع أماني البنات، غير أن الساردة المختلفة في أمانيها وفي تصوراتها عن العالم عن زميلاتها، تتمنى الحصول على بحر، في لعبة الأماني الشهيرة. هنا تتكئ الكاتبة على تيمة الألعاب الطفولية لتخلق من حلمها/ أمنيتها حكاية، ومن ثم يأتي السرد بعد هذه الجملة: «تمنيتُ الحصول على بحر»، مشغولاً بالإشارة إلى البحر، بالعلاقة الحميمة والملتبسة أيضاً بين الساردة وبينه. وتبدأ في الحكي عن بطلتها أكثر، فهي ابنة إدكو؛ مدينة الشقاء، في مقابل رشيد؛ مدينة البهجة، والحكاية هنا تأتي على دفعات، فتحضر «الخالة رشيدة»، و»رضا» التي تحكي عن أخيها الذي أرسلته إلى رشيد ليلقي خلاص مولودها الأول في النيل طمعاً في إطالة عمره، في توظيف لطاقات الثقافة الشعبية للمكان. في «الطير الجارح» الذي يبدأ بإشارات دالة إلى العلاقة مع صقر «الشاهين»، واستعادة ارتباك الذات وسنوات التيه التي عاشتها، ولم يبق سوى اللاصقة الطبية تذكرها بنفسها، ثم الحضور والغياب كالبرق الذي يومض ويختفي، للسيدة التي رحلت؛ والتي نفهم من سياق السرد أنها «زينب آل زيتون». يحضر «حسن» و «زينب» من جديد، ويبدوان شخصييتن غائبتين محركتين للسرد، ونبدأ في التعرف أكثر على «حسن» الذي سافر إلى ألمانيا، وأحبّ مقابر العَلَمين، وشجع الساردة على الكتابة، وأخبرَ «زينب» بذلك. ينتهي فصل «نعناع أخضر» بنزوع مقالي، لو حذفناه لن يختل أي شيء في البناء. ويبدو المرض حاضراً ليس بوصفه موضوعاً للكتابة، لكن بوصفه ظلاً لروح منهكة، وإن بدت الكاتبة في حاجة حقيقية إلى النهل أكثر من مخزون الخبرات الحياتية، من المعنى المتعدد للحياة بأوجهها المختلفة التي تؤسس لخطابات خارجها. تبدو أسرة «زينب آل زيتون» مهيمنة على فضاء السرد الذي تتداخل فيه مساحات التقاطع بين الذاتي والموضوعي، وهي أسرة يرحل أفرادها مبكراً عن الحياة. وتزداد مساحات الذاتي والسير ذاتي في الفصل الحامل عنوان «زينب آل زيتون وزينب الهلالية»، أما فصل «بئر مسعود»، فهو من أغنى فصول الرواية معنى ودلالة. تنتهي الرواية نهاية مأسوية قدّمت لها الكـــاتبة كثـيراً في متن حكايتها التي تتواتر مع «زينب» الجدة والأم، وينتظر أيضاً أن تتواتر مع الحفيدة ولكن بتفاصيل مختلفة. تبدو رواية «كبرياء الموج» مشغولة بالنزوع الجمالي في استخدام اللغة، وبالحضور الصوفي داخل الحكاية، مفسحة بنيتها أمام تأويلات مختلفة، ومغايرة.

مشاركة :