شكسبير يدق «جرس الإنذار» في بيروت عشية الانتخابات

  • 5/5/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لا توجد مسرحية لشكسبير، أكثر دموية وثأرية من «تيتوس أندرونيكوس» التي كتبها في وقت مبكر من حياته، وهي التراجيديا الأولى التي سطرها، ولم يسجل لها الكثير من الشهرة بسبب عنفها الشديد ووحشية أحداثها التي تتجاوز الاحتمال. وخيار «فرقة زقاق» اجتزاء مقاطع من هذا العمل بشكل رئيسي مع أخرى من مسرحيات غيرها للعبقري الإنجليزي مثل «الملك لير» و«ماكبث» و«يوليوس قيصر» له دلالته، مع كل ما يحيط بلبنان من مجازر وأنهار دماء.العمل المسرحي «راسين بالإيد» فيه إيهام ولعب وتجريب، ومحاولة التحام مع الجمهور. وبينما يتوافد الحضور لأخذ مقاعده، يكون العرض قد بدأ. وهو على أي حال ليس عرضاً كلاسيكياً، إنه نوع من التماهي بين الأرض بكل ما تتفتق عنه مسالك البشر من فجور وتفنن في الشر، وخشبة فنية تحاول أن تقوله على طريقتها المخففة، كي تجعل الفرجة محتملة.الممثلون الثلاثة مايا زبيب وجنيد سري الدين ولميا أبي عازر (وهم أيضاً معدو النص والمخرجون) يقفون معاً في إحدى زوايا الخشبة والناس تأخذ أماكنها تدريجياً، لنرى أنهم انتقلوا بشكل عفوي، وهم مستمرون في حوارهم الصامت، إلى وسط المسرح، ونفاجأ بأن اثنين منهما ينقضّان دون مقدمات على الثالثة، ويرتكبان جريمتهما بخنقها، حتى تلفظ تدريجياً أنفاسها الأخيرة. بداية صادمة، لكن الجثة سرعان ما تنهض واقفة بينما تسألها لميا إن كانت قد أخافتها وهي تقتلها، فتجيب: «مشي الحال لميا. هذا مسرح! هذا مجرد مسرح!».بداية قصيرة، يذهب بعدها الممثلون للجلوس أمام الطاولة الكبيرة التي تتوسط الخشبة. نقاشات حول النص، كيفية تركيب المشاهد. ما يتوجب تقديمه، وما يجدر التخفيف من حدته. هل يصح الوصول بالعنف حد الوحشية. كيف أن الممثل يحمل سكينه ويري الجمهور أنه يرتكب جريمته لكنه لا يغرس نصلها في جسد الضحية كي لا يذهب الأداء إلى جرح مشاعر المتفرج. تقطع الحوارات في كل مرة ما يشبه اسكتشات قوية وعنيفة. الكثير من الواقعية حول الطاولة، وكأننا في ندوة حقيقية، وانتقال فجائي إلى التمثيل عند تقديم الاسكتشات. أربعون جريمة قتل، حالات اغتصاب، جثث، تقطيع أيد والسن. الجميع ينتقم من الجميع، نفوس جائعة للسفك ودماء لا تتوقف عن الجريان، في مسرحية شكسبير، التي تستعار أجزاؤها لأدائها حية. مشاهد تستدعي من الممثلين تخبئة عيونهم إما بأيديهم أو نظارات سوداء. فالنظر في وجه الضحية بحسب ما تشرح إحدى الممثلات هو تحميل له قدراً من المسؤولية عما يحدث.مسرحية «تيتوس أندرونيكوس» تعود إلى العام (1592) ويعتقد أن شكسبير ألفها مع آخر هو جورج بيل. أحداثها تقع في القرن الرابع قبل الميلاد ولشدة شراستها من المستبعد أن تكون حقيقية. قصة استثنائية في عنفها حيث تنتقم تامورا ملكة القوط بعد أن تؤخذ أسيرة ويقتل ابنها أمام عينيها، من جلادها تيتوس ويتمكن أبناؤها انتقاماً لها من اغتصاب ابنة تيتوس وتشويهها بشكل مفزع. ويتمكن تيتوس بعد ذلك من الثار لنفسه بأفظع مما فعلت تامورا وسلالتها. ومن بين ما يقوم به هو قتل أبنائها وطحن عظامهم وعجنها بدمهم وتقديم كل ذلك لها على مائدة السم كي تتجرعها، ثم يعمد إلى قتلها وقتل ابنته، وهو يستسلم للجنون.هذا المشهد الأخير تبدع الفرقة في تقديمه حيث، وكما في كل المشاهد، تستخدم الإضاءة بحرفية عالية. لنرى الثلاثة على المائدة ويقدم تيتوس أوعية الطعام الأحمر القاني بنفسه وأكواب شراب الدم لغريمته بأناقة بالغة، ثم تسلط الإضاءة على وجهه حيث يتحول إلى ما يشبه الوحش، وينسكب السائل ليغسل ملامحه المرعبة التي بقيت وحدها تلتمع في ظلمة الغرفة.بقيت مسرحية شكسبير «تيتوس أندرونيكوس» تقرأ ويخفت نجمها، لتعود إلى السطح في العصر الحديث. واختيار «فرقة زقاق» لهذا العمل بالذات، وفي هذه المرحلة من عمر لبنان والمنطقة له دلالاته. وهذه المرة عرضت نسخة مطورة من «راسين بالإيد» عن تلك التي قدمت سابقاً عام 2016 حيث تستكمل فرقة «زقاق» المسرحية اللبنانية تجاريبها الجريئة، وربطها بين الخشبة والواقع، بعد انتقالها إلى مقرها الجديد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فاتحة أبوابها للمدارس والجامعات والجمهور العريض. وأتت النسخة الجديدة من هذا العمل الدرامي بسوداوية حالكة، قبيل الانتخابات النيابية في عروض عدة ثلاثة مسائية، وأخرى خلال النهار للمدارس التي توافدت للفرجة.وان كانت الفرقة تعتبر أن العرض جاء ليواكب الأجواء الانتخابية النيابية الشرسة، والمزاحمات العنيفة، ويقدم مسرحياً الديكتاتورية ببشاعتها ووحشيتها، فهو بمثابة جرس إنذار إلى ما يمكن أن ينجرّ إليه لبنان في ظل المجازر المحيطة به والجنون الهادر حوله. فالموت لا ينجب غير الموت، والانتقام ليس له سوى نتيجة واحدة هو: ابتلاع الجميع.

مشاركة :