عندما أهداني فهمي عبد السلام كتابه «مذكرات الغرفة 8» (المحروسة) وبانت لي على غلافه صورة الشاعر الراحل أمل دنقل، ابتهجت وأخبرته على الفور بأنني ممن يحبون قراءة السير الذاتية، وقبل أن أكمل جملتي تلك تنبهت إلى الخطأ الذي وقعت فيه، إذ إن الكتاب كما هو واضح من الغلاف والعنوان، لا يتمحور حول حياة المؤلف، بل يدور حول حياة صديقه الشاعر الكبير. المدهش في الأمر، هو أن فهمي السلام؛ الطبيب والأديب، لم يستوقفني ليراجعني في هذا الخطأ، بل وجدته يوافقني على ما ذهبت إليه، وقال إنه أيضاً من عشاق السير الذاتية. الفقرة السابقة كانت ضرورية، لأنها قد تكشف عن مستوى خفيّ من مستويات تلقي هذا الكتاب. فهو يبدو للوهلة الأولى وكأنه طريقة جديدة وغير مسبوقة في كتابة السيرة الذاتية، وهي كتابة لا يظهر فيها صاحب السيرة على نحو مركزي، كما هو معروف ومتوقع، فنحن هنا وباختصار شديد، أمام حقبة زمنية ملتبسة وبالغة الغنى من حياة فهمي عبد السلام، يحاول أن يقرأها لنفسه أولاً ثم لنا، على ضوء شهاب برق في حياته على غير انتظار ثم انطفأ فجأة، وهو صديقه الشاعر الكبير أمل دنقل. منذ البداية، يعترف الكاتب بأن أمل دنقل، هو من ساهم في شكل كبير في التحولات الثقافية العميقة التي شكلت في ما بعد قناعاته، بل إنه مثّل له القدوة التي يجب أن تحتذى في النبل والفروسية، من ثَم نرصد على مدار هذا الكتاب ما يشبه التوحّد الوجداني الكامل بين الصديقين، بما يجعل الفصل بين ما يدور على لسان أمل، وبين ما يأتي على لسان المؤلف ضرباً من المستحيل. ما يثير الدهشة أيضاً، ويدعونا إلى التوقف الطويل حياله، بل ويؤكد أننا أمام سيرة ذاتية بامتياز، هو هذا الحس الاعترافي الذي يعكس جسارة استثنائية، لا يكاد يعرفها أدب السيرة الذاتية في ثقافتنا العربية. فالكاتب يحكي في الفصل المعنون بـ «مولاي لا غالب إلا الله» عن واقعة مهمة، حدثت إبان دخول أمل المستشفى لإجراء جراحته الأولى حين اكتشف إصابته بالسرطان. كان أمل مفلساً كعادته، كذلك كان صديقه الأوفى الدكتور فهمي يمر بضائقة مالية، بينما كانت الجراحة تحتاج إلى مبلغ طائل، بحسابات ذلك الزمن. هنا اضطر الصديق المخلص إلى الاستدانة، من أجل الحصول على المبلغ المطلوب... «أجرى أمل الجراحة الأولى في مستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية في العجوزة، وكان – آنذاك- صرحاً طبياً شامخاً. انتهت جراحة أمل بسلام، وكنا في الشتاء وخرج من المستشفى، وعندما تقابلت معه دار بيننا هذا الحوار:-حمداً لله على سلامتك وعلى تعافيك! -الله يسلمك... لماذا لم تأت لزيارتي في المستشفى؟ هكذا سألني معاتباً في رقة واهتمام. ارتبكت وتلعثمت. -الشواغل، وكنت أطمئن عليك من عوني وسليمان فياض وبقية الأصدقاء. –كلا... أنت لم تقم بزيارتي لأسباب أخرى سأقولها لك، سوف أقول لك ما دار في فكرك، حينما أعطيتني النقود اعتبرتَ أنك أديتَ ما عليك نحوي! ولهذا لم تأت لزيارتي! قلتُ في نفسي ها هو يمسك بي متلبساً، شعرتُ بالخجل والخزي، لم أكن على القدر المطلوب من الشعور بالواجب الأخلاقي ولا الإنساني حيال صديق حميم، هل صداقتنا لا تتوطد إلا في السهرات والسرور واللهو فحسب، فإذا ما داهمه المرض بخلتُ عليه بالزيارة. للأسف ما قاله أمل كان صحيحاً». لعلي لا أكون مبالغاً، إذا قلتُ إن هذا الحوار هو مركز النص، بل ربما يكون هو المحرك الأساس لهذا العمل كله. فهذا الموقف من جانب أمل، يعد درساً في الكبرياء الرفيعة التي لا تقبل الدنية في الصداقة، ولا تكسرها الأعطيات، ومن جانب الصديق، يعد الموقف درساً في الشجاعة الأدبية، التي تنم عن قدرة نادرة على مواجهة الضعف الإنساني ومحاصرته واستئصاله، وكأنّ فهمي عبد السلام يجعل من كتابه هذا ستارة اعتراف، يسعى إلى أن يحرر خلفها روحه، تماماً كما ينبغي لكتابة السيرة الذاتية أن تفعل. ملمح آخر لا ينبغي أن يفوتنا في هذا الكتاب، وهو تلك المحاولة الناجزة في استعادة قاهرة السبعينات، لا بقوة الذاكرة التي غالباً ما تضعف مع الوقت، بل بقوة الفن الذي ينتخب من الذاكرة ما ينفع الناس. نحن اذاً إزاء كاتب فنان حتى النخاع، بحيث تتبدى احترافيته على نحو جليّ، حين نتأمل ذلك الحس البصري الدقيق الذي يميّز السرد في هذا الكتاب، حتى يكاد يحيله إلى رواية فاتنة. ففي المشهد الذي يرسمه كاتبنا لحانة في قلب القاهرة مثلاً، يقول: «المهم أن بار مدام روز كان واسعاً وخافِت الإضاءة. وكانت لمدام روز مائدة خاصة تتيح لها أن تراقب ما يدور في أرجاء البار. تجلس في ركنها الدائم، تدخن الأرجيلة وتراقب العمل. كان باراً جميلاً، وكان الروّاد خليطاً من تجار وسط البلد وصغار الموظفين والمستخدمين في محلات المنطقة. كان الكثير من الممثلين والمخرجين من زبائن بار مدام روز، منهم الفنان الراحل صلاح منصور وتوفيق الدقن ومحمود عزمي والدفراوي... إلى آخره». على هذا النحو وبريشة رسام بارع وعين حانية، يرسم كاتبنا في كلماته القليلة الخاطفة، صورة من لحم ودم لمنطقة وسط القاهرة في حقبة محددة، بكائناتها ومناخاتها الثقافية، بل وتراكيبها الاجتماعية أيضاً. يقدم فهمي عبدالسلام عبر كتابه شهادة موثقة، على الواقع الثقافي المصري في فترة تناثرت فيها الأوراق، واضطربت الصفوف، وتوزّع فيها الرفاق على موائد لم تخطر لأحد على بال، إذ جمعت بين مناضلين قدامى منهكين، وبين تجار حرب وسماسرة وقوّادين. هي شهادة تعيننا على فهم جذور ما آلت إليه أوضاع النخب المصرية الراهنة -وربما العربية أيضاً- من تفكك واهتراء، جرّاء الانتهاكات والتجاوزات التي قامت بها الأنظمة المتعاقبة، في حق الثقافة والمثقفين. في ثنايا الكتاب ترِد مقارنة سريعة بين أمل دنقل ومجايليه، من أمثال محمد عفيفي مطر وغيره، وبالطبع ينحاز إلى صديقه، فيرى أنه استحق مكانة رفيعة لم يطاوله فيها أحد من مجايليه، جعلته ثالث الثلاثة الكبار في مصر مع صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي. وفي هذا السياق، علينا أن نقر بأهمية أمل دنقل الذي استحق مكانته لأسباب عدة، فعلاوة على موهبته الكبيرة التي لا يُختلف عليها، كان من القليلين الذين انحازوا شعراً وسلوكاً إلى قضايا الوطن، وقضايا المهمّشين فيه، ما جعله نموذجاً رفيعاً للمثقف العضوي. ربما ثمة ملاحظات يأخذها بعض ناقدي أمل على مجمل تجربته الشعرية، ويمكن اختصارها في تلك النزعة اليقينية التي ميّزت نصوصه في ظرف تاريخي مضطرب. وهي نزعة نحسبها تتصل بطبيعة أمل دنقل نفسِه وبنشأته، ربما أيضاً كانت وليدة لحالة النكوص والتخاذل تجاه الثوابت الوطنية، التي شابت الأداء العام للنظام السياسي إبان ولاية الرئيس السادات، وما سببه ذلك من استقطابات حادة. على أنّه ينبغي الانتباه لتداعيات هزيمة 1967 التي أصابت المشروع القومي العربي تحت قيادة عبد الناصر بشروخ عميقة، فأفرزت تيارين رئيسيين داخل المشهد الشعري المصري آنذاك، الأول يمكن وصفه بتيار «المقاومة والصمود»، وكان مشروعه الأساس يتمحور حول فكرة الدفاع عن الهوية الوطنية بوصفها موروثاً مقدساً، وقد مثّله أمل أعلى تمثيل. من هنا كان طبيعياً أن تصبح قصائد أمل دنقل أيقونات ثورية، لدى أصحاب القلوب الغضة من شباب الحركة الطالبية وغيرهم، أعني هؤلاء الباحثين عن الأمل. أما التيار الثاني، فرأى في الهزيمة مدعاة لمساءلة الواقع، وإعادة فحص مفهوم الهوية، وذهب إلى نقطة بعيدة مفادها أن الهوية ليست بكاملها تركة نرثها عن آبائنا كما يُظن، بل أن الجزء الحيّ منها ينبغي أن نصنعه نحن بأنفسنا. من هنا نشأت الدعوة إلى هدم الأبنية الجمالية السائدة التي نشأت وارتبطت بالمشروع القومي المكسور، والبحث عن أبنية جديدة قادرة على استشراف المستقبل. ومثّل هذا التيار محمد عفيفي مطر، وتبعه في المجرى ذاته جيل السبعينات الغاضب. والتياران كانا حتمية تاريخية، استلزمها الحفاظ على سلامة عقل هذه الأمة، وضميرها العام. «مذكرات الغرفة 8»، ليس في جوهره مرثية لأيام خلت، بل مساءلة لراهن ملتبس.
مشاركة :