خفايا وأسرار في مذكرات المؤرخ الراحل عماد عبد السلام رؤوف

  • 9/27/2021
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

خفايا وأسرار في مذكرات المؤرخ الراحل عماد عبد السلام رؤوف   سلام الشماع   علي الوردي (مكارثي) لإيمانه بالتحرك (الصدفوي) للتاريخ وعدم خضوعه إلى أي قانون دعوة إعادة كتابة التاريخ تضيع في مطعم لؤلؤة ببغداد < ما سرّ أصوات الموتى التي تسود بناية قصر الثقافة والفنون في بغداد؟ < شاهد افتتاح جسر التحرير وسرد قصته لأبنائه عندما قصفته طائرات التحالف < تذوق الموسيقى الكلاسيكية في طفولته لكن مدرسه صدمه عندما أخبره أنه لا يمتلك أذناً موسيقية < لم يبرع في التاريخ فقط وإنما في الرسم والسيراميك أيضاً وأقام معارض فنية شخصية < والدته زرعت فيه حب التاريخ فأصبح مؤرخاً وخططياً لا يشق له غبار هذه مذكرات مهمة لمؤرخ عراقي مهم عرف بالمثابرة والانتاج الغزير إذ بلغت الكتب التي ألفها أكثر من 135 كتاباً أغنت المكتبة العراقية والعربية وأزالت الغبار عن تاريخ بغداد بخاصة والعراق بعامة فضلاً عن تواريخ شخصيات عراقية لعبت أدواراً كبيرة في التاريخ العراقي الحديث وفي العهد العثماني. إنها مذكرات المؤرخ والخططي الراحل الدكتور عماد عبد السلام رؤوف التي نشرها في العاصمة الأردنية عمان ولده البكر رؤوف العطار عن (دار دجلة – موزعون وناشرون)، تحت عنوان (مذكرات عماد عبد السلام رؤوف شيخ المؤرخين والمحققين البغداديين المعاصرين)، ويبدو أن الدكتور عماد قد شرع بكتابة هذه المذكرات قبل رحيله بوقت قصير، لكنها حفلت بالكثير من الحوادث المهمة والمثيرة وألقت أضواء كاشفة على أحداث غامضة مرت في حياتنا، وتصدرها إهداؤه (الإهداء.. إلى طلبتي الأعزاء.. مؤرخي المستقبل)، كما يبدو أن ولده الذي نشر المذكرات هو الذي وضع لها العنوان وليس صاحب المذكرات نفسه. قصة جسر الجمهورية تتحدث المذكرات، بإسهاب ممتع، عن طفولة صاحبها، وهو يعيد الفضل في حبه لمادة التاريخ واتجاهه إليها تماماً إلى أمه التي كانت “تملك حساً فطرياً بالتاريخ، فضلاً عن أنها درسته لمدة ما في كلية الملكة عالية على يد أساتذة أكفاء، منهم الدكتور صالح أحمد العلي وغيره، وكانت من المتفوقات في هذه المادة خلال سني دراستها عامة”، كما يذكر أنه كان ينكب على قراءة كتبها، وأن والداه، في مرحلة اليفاعة والصبا كانا يشتريان له الكتب التي يطلبها والتي ليس بمقدوره شراءها من مصروفه اليومي. يذكر أن والدته أخذته، في أحد أيام سنة 1957 إلى ساحة الملكة عالية (ساحة التحرير فيما بعد) يوم افتتاح جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية) ليشاهد حفل افتتاح الملك فيصل الأول له، وأنها دست رأسه بين زحام المتفرجين قائلة: أنظر يا ولدي لتحكي لأولادك حينما تكبر قصة بناء هذا الجسر! فكان أن تحقق توقع والدته تماماً، ففي أول سنة 1991 قصفت طائرات معتدية جسر التحرير وانهار جزء مهم منه، وأنه طفق يصف لولده رؤوف وغيره من صغار الأسرة حادث افتتاح الجسر، كما رآه قبل قرابة ثلث قرن. تروي المذكرات أن صاحبها كان يهوى الموسيقى وأنه أراد تعلمها لكن معلم الموسيقى في (المدرسة المأمونية)، التي كان يدرس فيها صدمه عندما قال له إنك لا تملك (أذناً موسيقية)، مع أنه بدأ، منذ مدة، بتذوق الموسيقى الكلاسيكية الغربية، بعد أن اقتنت الأسرة جهاز (كرامافون)، مع عدد كبير من الاسطوانات الموسيقية، من مزاد أقيم لبيع أثاث أحد الموظفين الأمريكيين العاملين في بغداد، آنذاك. لكن التلميذ عماد عبد السلام رؤوف وجد في الرسم المجال الذي يستطيع أن يعبر به عن نفسه، فكان يحضر جميع الساعات اللاصفية التي تخصصها المدرسة لممارسة الرسم، وكانت رسومه تتميز بانسجام ألوانها، وإن لم يكن مقصوداً أو واعياً في أكثر الأحيان، ويذكر أن المدرسة كانت تختاره ليرسم الشخصيات المهمة، ومن تلك الشخصيات وزير الثقافة المصري السيد كمال الدين حسين، حينما زار المدرسة في صباح أحد الأيام من سنة 1958? وملك المغرب محمد الخامس، عند زيارته العراق وغيرهما. والواقع أن الرسم رافق صاحب المذكرات طوال حياته واتجه إلى فن السيراميك وهو في العقد الرابع من عمره عندما كان يزور قاعة عبلة القريبة من بيته في الغزالية، لكن، إلى جانب ذلك لم ينقطع ولعه بالقراءة، منذ الصغر حتى توفاه الله، وقد نمّى لديه هذا الولع ميولاً أدبية، وخيل إليه، لبعض الوقت، أنه يمكن أن يصبح روائياً أو شاعراً مثلاً، بيد أنه فشل، المرة تلو المرة، في كل من مجالات الإبداع الأدبي، ولكنه، مع ذلك، فاز بما هو أكبر أهمية في حياته العملية، تلك هي القدرة على التعبير عن أفكاره بأسلوب واضح جهد الإمكان، وهو الأمر الذي دفعه، بعد سنوات، إلى الكتابة في مجال جديد سوف يستأثر بكل اهتمامه، وهو التاريخ. وبدأ الوعي السياسي يتشكل لدى الفتى عماد عبد السلام رؤوف، وهو في نحو السابعة من عمره، مع اندلاع ثورة 23 يوليو في مصر سنة 1952? ثم العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956? ثم مشاركة أخيه نزار في التظاهرات وانتماؤه إلى اتجاه سياسي، ثم قيام ثورة 14 تموز في العراق وما تلاها من أحداث. خطط بغداد القديمة عندما انتقل صاحب المذكرات للدراسة في متوسطة المأمون، وكانت تقع في نهاية حي المنصور، افتتحت، غير بعيد عنها، مكتبة عامة أنيقة هي مكتبة المأمون العامة، فوجد طريقه إلى هذه المكتبة يغترف منها ما يشتهيه من الكتب، واستعار منها، ذات يوم، كتاباً استهواه عنوانه، وهو (دليل خارطة بغداد المفصل) من تأليف الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسه، فقرأه بشغف شديد، حتى أنه اشترى، فيما بعد، نسخة خاصة به، وصار يقرأه قراءة تمعن وتأمل، وتعرف، من خلاله، على خطط بغداد القديمة، لا سيما في العصر العباسي، وما كان يقوم فيها من منشآت مهمة، ووجد طريقه هذه المرة إلى بغداد نفسها، يقابل ما يقرأه في (الدليل) و(خرائطه) على واقع بغداد الآن، وهكذا بدأت رحلته نحو عالم الخطط ليصبح من أهم الخططيين في العراق. وفي مكتبتي المتحف العراقي والأوقاف العامة عرف طريقه إلى المخطوطات، وشيئاً فشيئاً اعتادت عينه على قراءة أوعر المخطوطات خطاً، وأدقها حرفاً، وقد صور عدداً منها بوساطة كاميرا جيدة كان والده قد جلبها له من براغ، في رحلة له الى هناك لغرض العلاج، وأضاف اليها عدسة ألمانية مقربة، ومما صوره مخطوطة (حروب الإيرانيين في العراق) للمؤرخ سليمان فائق بك، وغير ذلك، حتى صار من أبرز محققي المخطوطات، فيما بعد. أصغر تدريسي في الجامعة كان أول تعيين لصاحب المذكرات في المجمع العلمي العراقي، وهناك تعرف على نخبة من العلماء، منهم رئيس المجمع الدكتور عبد الرزاق محيي الدين، وأمينه العام الدكتور فاضل الطائي، والدكتور جواد علي، والأستاذ طه باقر، والشيخ محمد بهجة الأثري، والأستاذ كوركيس عواد، واللواء محمود شيث خطاب، والأستاذ ناجي معروف، والدكتور يوسف عز الدين، والدكتور سليم النعيمي وغيرهم. كما أفاد من مكتبة المجمع ومخطوطاته، لاسيما وأن مكتبه كان يقع في قسم المخطوطات، فكان يستغل الوقت في مراجعة ذلك كله، فيملأ كل يوم عدداً كبيراً من بطاقات البحث الملونة بنصوص يقتبسها من تلك المصادر الثمينة، ثم عندما عين أستاذاً في كلية التربية بجامعة بغداد، بعد نيله الدكتوراه كان أصغر تدريسي في الجامعة إذ كان عمره يبلغ 28 سنة. التيمار العثماني والساموراي الياباني لم تكن حياة صاحب المذكرات في الكلية كلها تأليف وبحث وحسب، إذ ما أن وضع قدمه في القسم حتى كلف بتدريس جملة من المواد لعدد كبير من الشعب، مما كان يفرض عليه تكرار المادة نفسها مرات عدة، وهو عمل ممل جداً ومتعب إلى حد كبير، وأكثر ما درّسه من المواد (تاريخ الوطن العربي في العصر العثماني) و(تاريخ جنوب شرقي آسيا واليابان)، وقد لفت نظره التشابه بين نظام الإقطاع العسكري المعروف باسم التيمار في الدولة العثمانية ونظام الإقطاع العسكري المعروف بالساموراي في اليابان، هذا الى جانب مواد اخرى كان يكلف بها أحياناً سداً لشاغر ما. علي الوردي تطرقت المذكرات إلى ظروف نشوء علاقة بين صاحبها وعالم الاجتماع الأبرز الدكتور علي الوردي، إذ جرى التعارف بينهما في مطبعة قديمة كان الوردي يطبع فيها الأجزاء الأخيرة من كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). يذكر أنه سأل الوردي مرة لِمَ لم يسمّ كتابه (التاريخ الاجتماعي للعراق الحديث) أو ما شابه من العناوين، فهذا أكثر دلالة من (اللمحات) المتواضعة التي لا تدل إلّا على النظرة العابرة، لا المتعمقة، قال أنه لما كان لا يؤمن بوجود قوانين اجتماعية أو اقتصادية تحرك التاريخ، فإنه استبعد مصطلح (التاريخ الاجتماعي) التي توحي بوجود مثل هذه القوانين، واكتفى بالقول إن في التاريخ (لمحات اجتماعية) لا أقل ولا أكثر، فتأكد لصاحب المذكرات مدى اقتناع الوردي بفكرة أن التاريخ يتحرك (صدفوياً) أي من دون الخضوع إلى أي قانون من أي نوع كان، كما تأكد له أن الوردي اعتنق هذه الفكرة في أيام دراسته في امريكا، حيث كانت الأفكار (المكارثية) هي السائدة، بينما كانت الماركسية تدعو في الوقت نفسه إلى وجود قوانين حتمية تحرك التاريخ. وقد ألقى المؤلف عن هذا الموضوع محاضرة بمناسبة مرور سنة على وفاة الوردي، ثم نشرها، فيما بعد، في جريدة الزمان اللندنية. وينقل عن الوردي قوله إنه حينما كان في إحدى زياراته إلى لندن، التقى أحد أمراء الأسرة الهاشمية المالكة في العراق سابقاً، فما كان من (سمو الأمير) إلّا أن أنحى عليه باللائمة قائلاً: لم انتقدت النظام الملكي في العراق في كتبك، هل آذاك هذا النظام، هل أزعجك في شيء؟، فقال له الوردي: لا بل كانت كتبي مديحاً في النظام لا نقداً له! فقد نشرت كتبي في ظل النظام بما تضمنت من نقد، وأنا مطمئن أن لا يسيء لي أحد، وقد صدرت فعلاً وقرأها الناس، ولم يمسني النظام بكلمة، ألا يعبر هذا عن حرية الرأي والتعبير، فهل علمت مدحاً للنظام أكثر من هذا! اكتشاف دير العاقول يتحدث الدكتور عماد عبد السلام رؤوف عن أحد اكتشافاته، فيقول: كنت كثير التنقيب والتنقير عن الوثائق، وفي مرة عثرت في مكتبة خاصة على نسخة من وقفية قديمة من القرن الثاني عشر للهجرة لأرض واسعة في جنوب بغداد فيها إشارة إلى معلم باسم (دير ابن العاقولي)، فقدرت أنه دير العاقول الذي اندثر بُعَيد الاحتلال المغولي للعراق في القرن السابع للهجرة، ولما كان لهذا الدير أهمية خاصة بوصفه المكان الذي صُرع عند مشارفه الشاعر المتنبي، فقد استرعت الوقفية اهتمامي، على أساس أن تعيين مكانه سيساعدنا على تعيين مكان دفن المتنبي، وشرعت أدرس بتأنٍ بالغ المواقع كلها التي وردت في الوقفية مما يفيد في تعيين موقع الدير، مستعيناً بخرائط تفصيلية رسمتها مديرية المساحة العامة في الثلاثينات. يضيف: بعد دراسة متعمقة لتلك المواقع ومقابلتها على المواقع الحالية، توصلت، ليس إلى اكتشاف موقع الدير فحسب، وإنما تعيين عددٍ من المواقع حوله، ومنها (بنارق) التي تسمى اليوم (برنيج) و(همينية) ولما تزل تعرف بالاسم نفسه، ودير قُنّى، وقبر تاج العرفين، وغير ذلك. قد نشرت هذه الدراسة في مجلة (الحكمة) التي أخذت تصدرها مؤسسة بيت الحكمة في بغداد. التراث في مطعم لؤلؤة من الشهادات المهمة التي وردت في المذكرات، ما رواه صاحبها عن موضوع إعادة كتابة التاريخ، بقوله: في سنة 1978 ألقى صدام حسين، وكان، يومذاك، نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة، محاضرة أو حديثاً في مكتب الإعلام القومي بالحزب، بعنوان (حول إعادة التاريخ) تحدث فيه عن التاريخ والتراث، وصولاً إلى دور القائد في صناعة التاريخ، و(هو المطلوب) وما إلى ذلك، ثم أنه أمر بإثارة الموضوع في وسائل الإعلام المختلفة، وبين المثقفين، فإذا بهذه (الإعادة) تصبح فجأة حديث الجميع، حتى أن مجلة (الف باء) الأسبوعية، دعت عدداً من تدريسيي التاريخ إلى ندوة في مقرها في باب المعظم لهذا الغرض. يضيف: بدأ كلام طويل، بعبارات مصفوفة لا تتجاوز ما قاله صدام في حديثه، بينما كان موظف في ركن الغرفة يعمل كـ(كاتب ضبط) في محكمة، مهمته أن يسجل ما يقال، وفي الواقع فإنه لم يكن مدرباً على هذا العمل، فأضاع بذلك معظم ما دار من كلام، ولما جاء موعد الغذاء، وجاع القوم، بشّرتهم المجلة بأن الطعام ينتظرهم في دعوة خاصة في مطعم لؤلؤة، وهو مطعم فخم جديد كان يحتل ركناً من حديقة الزوراء، وحينما انتقلنا إلى ذلك المطعم، فوجئ القوم أن ادارته اللبنانية قد أعدت فيه من المقبلات، والمشروبات، ما جعلهم ينقضُّون عليها ناسين موضوع الندوة تماما، وطواها النسيان. علماء في حياتي تحت هذا العنوان يتحدث الدكتور عماد عبد السلام رؤوف عن علماء وقصص تعرفه بهم بتفصيل جميل، فتحدث عن الدكتور كمال السامرائي، والأستاذ كوركيس عواد، وأخيه الاستاذ ميخائيل عواد، وغيرهم. قصر الثقافة وأصوات الموتى! تروي المذكرات قصة بناية قصر الثقافة الذي تحول إلى مقر لبيت الحكمة على نهر دجلة مما يلي وزارة الدفاع في الميدان وسط بغداد، ولطرافتها وغرابتها ننقلها كما كتبها صاحب المذكرات.. يقول: “اتصلت بي في ظهيرة يوم قائظ من سنة 1987 سيدة أعلمتني أنها مديرة قصر الثقافة والفنون، وطلبت مني أن ألقي محاضرة عن تاريخ هذا القصر في موسم ثقافي تعد له، وفي الحقيقة كان للقصر تاريخ طويل يستحق أن يكون موضوعا لمحاضرة دسمة، إذ كان أولاً مدرسة تعرف بالمدرسة العلية نسبة إلى منشئها والي بغداد علي باشا، المقتول سنة 1762? وأن هذه المدرسة تحولت بأمر من والي بغداد مدحت باشا لتكون أول مدرسة للصنايع في العراق سنة 1869 ثم تحولت إلى قصر للملك فيصل الأول فمجلس للأمة ثم محكمة عسكرية خاصة فمتحف عسكري، ثم تم تجديدها تجديدا جذريا لتتخذ قصراً للثقافة والفنون”. يواصل: “شرعت في البحث، وهدتني زياراتي العديدة الى مبنى القصر، ودراستي لأحجام الآجر، الى أن جزءاً منه يرقى الى عهد أقدم من القرن الثامن عشر، الذي شهد إنشاء المدرسة العلية، بينما كشفت الدراسة الخططية عن أن هذه المدرسة أنشئت على جزء من مدرسة قديمة ترقى الى سنة 696 هـ سميت بالمدرسة العلائية، نسبة الى مؤسسها علاء الدين السكرجي، أخو حاكم العراق عبد المؤمن السكرجي، وان النصف الشاطئي منها أزيل في وقت متأخر ليبنى بآجره سور بغداد من جهة النهر، وهكذا أدت دراسة المكان الى اكتشاف هويته التاريخية. وأذكر أني أخبرت مديرة القصر عن قصة مقتل مؤسس المدرسة علي باشا وهو يصلي في جامع السراي القريب، وكيف سحلت جثته الى المدرسة لتدفن في باحتها، وختمت حديثي بالقول أن الرجل قتل مظلوما، فعلقت هذه الكلمة في ذهنها، فإذا بها تخبرني بعد حين أنها تسمع، حينما تضطر الى البقاء في مكتبها الى ساعة متأخرة من نهار اليوم، أصواتا غريبة تنبعث من أمكنة مختلفة من القصر، مما أدى بها الى أن تغادر مكتبها مبكرا، وتصورت أن هذه السيدة تأثرت بما رويته لها من قصة دفن علي باشا، ولكن بعد مرور سنوات عدة على هذا الحديث، وتحول القصر نفسه ليكون مقرا لمؤسسة جديدة باسم (بيت الحكمة) أخبرني حراس هذه المؤسسة، وهم أشداء مسلحون، أنهم يسمعون في أرجائها ليلا أصواتاً وهمهمات غريبة من دون أن يشاهدوا شيئاً ملموساً، مما اضطرهم الى ترك المبيت داخلها، والانتقال الى (كارفان) في خارجها حيث يبيتون ومعهم أسلحتهم خوفا مما يسمعون!”. ويختم صاحب المذكرات الحديث عن هذا القصر بالقول: “على أي حال، فقد واصلت العمل في تاريخ هذا المبنى حتى استوى عندي كتاباً مستقلاً بعنوان (المدرسة العلية في بغداد، قصر الثقافة والفنون) وألحقت به خرائط ومخططات عديدة، وتولت دار الشؤون الثقافية العامة سنة 1988 طبعه ونشره”. طارق عزيز وتجديد دماء وزارة الخارجية أراد طارق عزيز، بعد أن صار وزيرا للخارجية سنة 1983? والحرب الإيرانية العراقية على أشدها، أن يجدد دماء وزارته، او يدخل عليها بعض اللمسات التي رآها مفيدة، فكان ان ألف لجنة استشارية من عدد من الاكاديميين، أكثرهم من المتخصصين بالعلوم السياسية، ومنهم اثنان من المختصين بالتاريخ الحديث، كان صاحب المذكرات واحدا منهما، تتولى مهمات متعددة، ذات طبيعة فكرية بحتة، وكان يعلن أن اللجنة هي العقل المفكر للوزارة. اختار الدكتور عماد عبد السلام رؤوف لنفسه مهمة هي اقرب الى عمله الاكاديمي، وهي وضع ضوابط علمية للبحوث التي يتقدم بها موظفو الخدمة الخارجية، بوصفها من مستلزمات ترقيتهم من درجة الى أعلى، وتقييم هذه البحوث عند تقديمها، وكان عمله هذا مفيدا حيث لم تكن ثمة ضوابط منهجية قبل ذلك، أما من ناحيته شخصيا فقد أتاح له هذا العمل الاطلاع على ملفات مهمة تتعلق بعلاقات العراق الخارجية لعقود ماضية، وهي ملفات كانت تصلح لأن تكون مادة دسمة لمئات من البحوث والدراسات فضلا عن الرسائل والأطروحات في مجالي التاريخ المعاصر والعلوم السياسية، وكانت تملأ عدداً كبيرا من الدواليب الحديد. ويبدي أسفه حينما علم أن أكثر هذه الدواليب دمر أو احرق في أثناء الاجتياح الامريكي لبغداد، ففقد العراق ثروة من المعلومات كان من شأنها أن تفيد الباحثين والمؤرخين لأجيال مقبلة. ويذكر أن الخارجية كانت تأبي ان تنقل ملفاتها الى المركز الوطني للوثائق او أن تتعاون معه وفقا لقانون المركز حرصا عليها، وها هي قد دمرت فلم يفد منها احد. يتبع

مشاركة :