سئل نزار قباني يوما: ما الشعر؟ فكان جوابه البسيط عميقا فريدا كشعره، قال “ما الشمس؟ ما المطر؟ ما الكواكب والنجوم والشجر؟ الشعر هو تلك المياه الجوفية المخزونة التي تنتظر فرصة لتتجه كالبركان من باطن الأرض المالحة، الشعر هو تلك الطبقة السميكة من ملح البحر التي نغطي بها أجسادنا حرصا على ألا تتعفن، الشعر هو ذلك الصراخ الذي نوجهه إلى الليل ليصبح نهارا وإلى اليباس ليصبح اخضرارا وإلى الخنجر ليصبح وردا، الشعر هو ذلك الانقلاب الذي يقوم به الشاعر من داخل اللغة والقناعات الثابتة لتصير صورة الكون أبهى وأجمل، الشعر هو غاية الحرية التي يسلمها الشاعر لشاعر آخر”. أما أشعار نزار قباني فجاءت تأكيدا لهذه المعاني، ربما لذلك أحب الناس شعره، وارتبطوا به فصار الشاعر العربي الأشهر، ومازالت له نفس المكانة رغم مضي عشرين عاما على رحيله، وبهذه المناسبة أصدرت الهيئة السورية العامة للكتاب كتابا بعنوان “نزار قباني قافية شموخ قاسيون” أعده الدكتور إسماعيل مروة ونزيه الخوري، وتضمن عدة محاور تناولت جوانب مختلفة في شعر الحاضر أبدا رغم رحيله. الدكتور إسماعيل مروة تناول “نزار قباني وشعر القضايا”، مشيرا إلى أن قباني كان فاصلة بين مرحلتين، والغريب أن كل نقاده توحدوا ضده رغم اختلاف مشاربهم، ”فالمتشددون اتهموه بالتحلل وقالوا عن شعره إنه إباحي، وخصومهم من العلمانيين قالوا إن نزار قّزم المرأة، والذين ينظرون إلى نزار نظرة أخلاقية يقولون إن نزار أعطى المرأة وسمح لها بالتحدث والحقيقة ليست كذلك، نزار كان شاعر قضية يريد للمرأة أن تحب ولكن ليس بالدراهم، أن تحب بقرارها لأن الحب مقدس لا أن تبيع الجسد من أجل مال أو منصب أو مكانة ولا من أجل أي شيء، هذا نزار ولو عدنا إلى مجمل أشعاره فسنجده كذلك”. نزار قباني كان يقول: القصيدة استطاعت أن تقتطع الأسطورة من جذورها وتأتي إلى أبي زيد الهلالي على إيوانه فتخنقه وأشار مروة إلى موقف الراحل جبرا إبراهيم جبرا الذي اتخذ موقفا سلبيا من شعر نزار وبعد سنوات تراجع ولم يجد غضاضة في الاعتراف بالخطأ، وهو ”لم يقل شعر الغزل بل شعر القضايا، لم يضع امرأة يتغزل بها، فهو يعلّم المرأة كيف تتجمّل لذاتها وكيف تتجمّل لمن تحب”، ويضيف أن الشاعر لم يخترع القضايا بل كانت موجودة في المجتمع، ولو لم تكن حقيقية لما أثارت المجتمع ضده هكذا، ومنذ ديوانه الأول، فقد رفض تبني المنهج الإصلاحي القائم على مداعبة الآلام، لذا كانت رسالته تنويرية تثويرية ولم تكن شعرية مترفة على الإطلاق، فديوانه الثاني ”طفولة نهد” جاء تصعيدا في الرؤية والفكر والفن. ولم يتوقف نزار في كل أشعاره عن معالجة القضايا الكبرى، فالحب قضية لكنه ليس معزولا عن سياقه. فنزار القائل “لا وطن لمن لا حبيبة له”، عرف أن الحب أساس القضايا الكبرى، فلا وطن دون إنسان، ولا إنسان دون حب، لذا تبنى مختلف القضايا من باب الحب. الكاتب الذي رحل مؤخرا شمس الدين العجلاني سلط الضوء على الأشياء المنسية في سيرة نزار قباني، متوقفا عند علاقة الشاعر بزوجته الأولى زهراء آق بيق، والتي آثرت الحياة في الظل منذ طلاقها من نزار وحتى رحيلها في عام 2005، حتى لم تفه بكلمة عن صدمة رحيله، فرحلت في صمت عند بلوغها الثمانين. وعاشت معه بالقاهرة حيث أنجبت له ابنته هدباء وابنه توفيق، ثم حدث الطلاق فجأة وغادرت القاهرة إلى دمشق عام 1952، لتعود إلى عملها كمدرسة مخلصة لعزلة اختارتها وفرضتها على نفسها حتى وافتها المنية، ويلمح الكاتب إلى أن ربما الغيرة من المعجبات كانت سببا للطلاق رغم الحب المتبادل بين الزوجين، بينما أشار المقربون منه إلى أنه حذرها من أن الشعر خط أحمر في علاقتهما، لكن الزوجة لم تفرق بين نزار الشاعر ونزار الإنسان، فحدث الطلاق. شعره تناول القضايا الكبرى شعره تناول القضايا الكبرى ويشير العجلاني إلى العلاقة التي ربطت الشاعر بالمغنية نجاة الصغيرة ذات الأصول السورية فهي ابنة لخطاط دمشقي محمد حسني البابا، وأخت غير شقيقة لعازف الكمان عزالدين حسني والفنانة الراحلة سعاد حسني. أما نجاة التي أحاطت نفسها بالمثقفين والمبدعين، فغنت لنزار أكثر من قصيدة أشهرها ”أيظن”، التي غنتها في مطلع الستينات وقت أن كان نزار يعمل في بكين، وكان نزار يعتبر الأغنية ابنة لهما معا، فكتب لها من بكين معاتبا لأنها لم ترسل له شريط الأغنية، ”يا لك من أم قاسية يا نجاة، أريت المولود الجميل لكل إنسان، وتغنيت بجماله في كل مكان، وتركت أباه يشرب الشاي في بكين، ويحلم بطفل أزرق العينين يعيش مع أمه في القاهرة”. وأنهى الرسالة بمطالبتها بالمولود، كاتبا لها “فانهضي حالا لدى وصول رسالتي، وضعي المولود في طرد بريدي صغير، وابعثي به إلى عنواني، إذا فعلت هذا كنت أما بحق وحقيقة، أما إذا تمردت فسأطلبك إلى بيت الطاعة، رغم معرفتي بأنك تكرهينه”. كذلك فتش العجلاني عن استجواب مجلس النواب السوري عام 1954 للدبلوماسي الشاب عقب نشر قصيدته “خبز وحشيش وقمر” في مجلة “الآداب”، مشيرا إلى دفاع وزير الخارجية السوري عنه حينما قال للنواب ”وزارة الخارجية السورية بها نزاران، أولهما الموظف وملفه جيد يثبت أنه من خيرة موظفي الوزارة، والثاني شاعر وأنا لا سلطة لي عليه ولا على شعره، فإذا هجاكم بقصيدة فاهجوه بمثلها”. وعن هذه القصيدة وتداعياتها يقول نزار ”وإذا كنت قد لقيت في سبيل هذه القصيدة الكثير من التجريح، فأنا كبير بهذه النهاية التي انتهت بها قصيدتي. وهذا دليل على أن القصيدة استطاعت أن تقتطع الأسطورة من جذورها وتأتي إلى أبي زيد الهلالي على إيوانه فتخنقه”. ولعل أزمتها كانت تمرينا مبكرا على ما واجه قصائده من أزمات رافقته طوال حياته.
مشاركة :