بيروت – انديرا مطر | قبل أيام أصدرت دار الجمل النسخة العربية لرواية «البوصلة» للروائي الفرنسي ماتياس اينار بترجمة لطارق ابي سمرا. حاز اينار جائزة غونكور الفرنسية (2015) عن روايته هذه، وحظيت «البوصلة» برضى النقاد والجمهور الذين رأوا فيها رواية مثيرة للإعجاب حول الاستشراق. حكاية شبيهة بـ«الف ليلة وليلة» تروي اثار الشرق الباهرة في الفن والأدب والموسيقى في الغرب. مستشرق جوال حين صدرت رواية البوصلة قال اينار ان احد اهداف كتابتها هو محاربة صورة متخيلة عن الشرق المسلم والعدو، من خلال الاضاءة على كنوز الشرق المعرفية والفنية، لاسيما بعد صدور روايات فرنسية تشيطن الاسلام وتستنهض معاداة الآخر الغريب. وذكر اينار تحديدا رواية ميشال هولبيك «الاستسلام»، ليقول «انتهيت للتو من قراءتها. وجدت هولبيك مضحكا صراحةً، روايته قاتمة وحزينة عن اسلام شديد النفعية لا يُرى فيه ضوء». على غرار شخصيات رواياته، تجول اينار بين مصر وسوريا وإيران «كنت ما كان يطلق عليه يوما مستشرق. درست العربية والفارسية في معهد اللغات الشرقية. حاولت إعادة بناء هذا التاريخ الطويل، تاريخ حب الشرق والشغف به. من دون اغفال العنف والتراجيديا التي تتخلل هذه الروايات من علاقات القوة، والمكائد السياسية والخيبات البائسة». اكتشاف الصدوع في الصفحة 12 من رواية «البوصلة»، يخبرنا ماتياس اينار بعوالم روايته «إن افتتحنا هذا العمل بصادق هدايت وروايته (البومة العمياء) فلأننا نسعى الى اكتشاف الصدع وسبر أعماقه، فنتسلل الى دواخل نشوة أولئك الذين تهاووا عميقاً في الغيرية، وسوف نأخذ بيد هذا الرجل قصير القامة وننزل معاً لمعاينة الجراح التي تبري، والمخدرات، والأمكنة التي هي خارج هذه الحياة، فنستكشف هذا البين بين، هذا البرزخ، هذا العالم الذي بين العوالم حيث يسقط الفنانون والرحالة». و«البوصلة» هي رواية عن الفنانين والرحالة والمستشرقين والاستشراق، ولكن من الداخل. فماتياس اينار يخرج في هذه الرواية عوالم الرحلات التي قام بها بين طهران وبيروت وفيينا وباريس، ويستعيد كل مخزونه الثقافي بوصفه مستعرباً ومستشرقاً. اما طريقة كتابته هذه الرحلات، فهي طريقة لولبية تقوم على التداعي الدائري الذي لا ينتهي «نحن مدمنا افيون، كل مقيم في سحابته، لا نبصر شيئا من العالم الخارجي، منفردين، من دون أن يفهم أحدنا الآخر ابدا ندخن، وجهان يختصران داخل مرآة، نحن صورة تجمدت، يوهم مرور الزمن بحركتها، بلورة ثلج، نزلت على كرة من الخيوط الجليد، لا أحد يلحظ تعقيد تشابكها». وبعد هذا التهويم المتتالي ينتقل الراوي إلى التحديد والتعيين «أنا قطرة الماء هذه التي تكاثفت على نافذة صالوني، لؤلؤة سائلة تنساب فلا تعرف شيئاً عن البخار الذي كوّنها، ولا عن الذرات التي لا تزال حتى اللحظة تشكلها، لكنها ستستخدم قريباً في تأليف جزئيات أخرى وأجسام أخرى، والغيوم التي تقبع بثقلها على فيينا هذا المساء». مشهد انتحار التداعي الدائري هذا هو الخيط الأساسي الذي ينظم هذه الرواية. وهو تداع ينتقل على نحو لا واعٍ تقريباً بين الشخصيات والأمكنة والحوادث. والشخصيات غالباً ما تُستل من روايات عالمية ومن حوادث روائية في الروايات الكبرى. فصادق هدايت مثلا يستعاد في «البوصلة» في مشهد انتحاره في باريس. ويصف اينار هذا المشهد كالتالي: «كان هذا الرجل القصير القامة ذو النظارات المستديرة مدركا أن في الحياة جراحا كالجذام تأكل الروح ببطء وتبريها في انزواء اكثر من أي شخص آخر. فجرح واحد من تلك الجراح أفضى به الى ترك الغاز يتسرب في شقته الواقعة في شارع شمبونيه ذات مساء من الانزواء الهائل، ذات مساء من شهر نيسان بعيدا كل البعد عن ايران، لا يؤنس وحشته سوى صحبة بضع قصائد لعمر الخيام وزجاجة كونياك داكنة، أو ربما حصاة من الافيون، أو ربما لا شيء، لا شيء على الاطلاق، ما عدا النصوص التي كانت لا تزال أمامه، في انتظار أن يكتبها، فحملها معه الى أعماق خواء الغاز الدفينة». اكتشاف مترجم تقصدنا الافاضة في اقتطاف شواهد من هذه الرواية لابراز عينات من لغة ترجمتها إلى العربية. وذلك للقول انها ليست مترجمة بل معرّبة، وربما من المرات النادرة التي نقرأ فيها ترجمة روائية الى العربية بهذه النضارة والجودة. وتحيلنا هذه الترجمة إلى بعض ترجمات الشاعر اللبناني الراحل بسام حجار التي كان يختارها عن شغف وليس بدافع مهني. واذا كان طارق ابي سمرا قد ترجم هذه الرواية بناء على اقتراح دار النشر، فإنه حوّل مهنته الى شغف لنكتشف نحن القراء مترجما شابا جديدا. والغريب ان هذه هي المرة الأولى التي يوقع فيها كتابا مترجما. واذا اردنا ان نتجاوز جودة هذه الترجمة فإننا نقول ان معظم المترجمين العرب هم جزء من أسباب الانحطاط الثقافي الذي نشهده حاليا.
مشاركة :