«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (1): مهرجان «كان» السينمائي في مواجهة متغيرات العالم الجديد

  • 5/6/2018
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

ليس خفياً أنّ شركات الإنتاج ولجانبها شركات التوزيع الفرنسية، تملك قوّة مؤثرة فيما يمكن لمهرجان «كان» عرضه وعدم عرضه من الأفلام. الفيلم المتقدم لاختيارات إدارة المهرجان في المرحلة الأولى، وكما سبق وذكرنا، لا بدّ أن يكون قد استحوذ على مباركة إنتاجية فرنسية كاملة أو جزئية لكي يُدرج. صحيح أنّ الاختيار الأخير لا يزال خاضعاً لقرار الإدارة، لكنّ معظم الأفلام المقدّمة والمدفوعة تجاه هذا الاختيار هي منتجة ولديها عقود توزيع تلك الشركات صوب الإدارة العامة. الباقي قد يختلف اختياره، لكنّ الثابت أنّ غالبية ما يقّدم، بصرف النظر عن منشأه ولغته المستخدمة، هو فرنسي أيضاً على نحو أو أكثر. شركات التوزيع لها تأثير كبير تبدّى في العام الماضي عندما عارضت وجود فيلمين من شركة «نتفلكس» الأميركية هما Okja وThe Meyerowitz Stories، على أساس أنّهما من أعمال شركة تعمل على خدمة زبائن بالاشتراك؛ ما يعني أنّه لا توجد لديها نيّـة لعرضه في الأسواق التجارية، كما لا نيّـة لشركات التوزيع الفرنسية - والحال هذه - قبول أفلام لا يمكن توزيعها في تلك الأسواق. المدير التنفيذي للمهرجان، تييري فريمو، التقى مع أرباب تلك الشركات، ووافق على ألا يعرض أفلاماً من إنتاج «نتفلكس» أو «أمازون» في العروض الرسمية بعد ذلك العام. - روما والنرويج عند هذا الحد تبيّـن أن لشركات التوزيع سطوة مهمّـة، وأن المهرجان عليه أن يفكر كذا مرّة قبل الموافقة على اتخاذ قرار تراه تلك الشركات مخالفاً لعلاقتها التاريخية مع المهرجان. لكن قبل أشهر قليلة بدا كما لو أنّ هناك سعياً لدى فريمو للقيام بقبول أفلام جديدة من «نتفلكس» إذا ما استطاع أن يكون صلة خير بينها وبين شركات التوزيع. لكن لا «نتفلكس» مستعدة لقبول تغيير أسلوب عملها ونظامه، ولا تلك الشركات ستسمح للمهرجان أن يتنفس هواءً جديداً مغايراً للسائد. وحاول فريمو أن يجد حلاً وسطاً بإقناع الفرنسيين والأميركيين على حد سواء بقبول عروض أفلام «نتفلكس» خارج المسابقة. الفرنسيون لم يمانعوا، لكن شركة «نتفلكس» رفضت، وما لبثت أن استبعدت اشتراكها على نحو كلّي. والواقع، أنّ استبعاد أفلام مصنوعة للخدمة المنزلية المباشرة يبدو في محله من زاوية أن المهرجان يحتفي بالسينما كما عهدناها وليس كما هي آيلة إليه في الحاضر والمستقبل. على أنّ هذه الأزمة تبرهن الآن، وعلى مسافة ثلاثة أيام من انطلاق الدورة الـ71 في الثامن من هذا الشهر، عن أبعاد أخرى في مقدّمتها أنّ الصراع، إذا ما صوّر على هذا الأساس هو صراع تكنولوجي ناتج من تقدم الوسائط الإعلامية والإنتاجية في مواجهة رغبة المهرجان العالمي الأول في الاحتفاظ باحتفائه المتوهج بالسينما فناً وصناعةً. ذلك لأنّ إلغاء أفلام صُنّعت للعروض غير العامة ما يحدّ من قدرة شركات التوزيع السينمائية، في كل مكان، على الاستفادة منها، يعني إلغاء التعامل مع هذا المنوال الحديث من الإنتاج والعروض. والحداثة في واقعها تقنية بحتة؛ ذلك لأنّ الأفلام المنتجة من قِـبل «نتفلكس» على الأخص، تتمتّع برخصة تمنحها الشركة تتيح لمخرجيها تحقيق أفلامهم بحرية شبه كاملة (أو، كما في حالة المخرج مارتن سكورسيزي الذي باشر بعد تأخر طويل، تصوير فيلمه الجديد «الرجل الآيرلندي») بحرية غير منقوصة. بالتالي، فإن ثمن الامتناع عن قبول أفلامها، وإلى جانب أنّه نزوع إلى عدم تطوير آلية المهرجان حيال الإنتاجات غير التقليدية، فيه خسارة زبائن وأفلام قد تستحق العرض على شاشة أكبر مهرجانات السينما. هذا العام عرضت «نتفلكس» على المهرجان الفرنسي فيلمين اعتبرتهما رصيداً مهماً لها ولهواة السينما على حد سواء. أحدهما هو الفيلم الجديد «روما» لألفونسو كوارون (مخرج «أطفال الرجال»: «جاذبية» الخ...) والآخر «نرويج» (Norway) لبول غرينغراس («أحد لعين» و«إنذار بورن» من بين أخرى). - هوليوود ضد «كان»؟ لكن ما سبق لا يعني أنّ مهرجان «كان» متجمّد في زمن مضى لا يقدر على (أو لا يودّ أن) يغادره. في الواقع، هناك متغيرات أساسية تحدث تباعاً منذ سنوات عدة، وتصل في هذا العام إلى ذروتها. عنوان هذه المتغيرات هو علاقة «كان» بالسينما الأميركية ككل. في لقاء مع المنتج الأميركي ألبرت رودي («العراب») في الشهر الماضي تم فيه الحديث عن تقاليد اشتراك هوليوود في مهرجان «كان»، ذكر لي أنّ المسألة بالنسبة لهوليوود اليوم تختلف تماماً عمّا كانت عليه سابقاً: «إذا نظرت إلى تاريخ المهرجان في الخمسينات وفي الستينات والسبعينات ستجد أنّ السينما الأميركية كانت أكثر حضوراً مما هي عليه اليوم، سواء كعدد أفلام أو كعدد ضيوف ونجوم، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الكثير من هذه الأفلام كانت من النوع الفني الذي تبحث عنه المهرجانات عادة. هذا على الرّغم من أنّ، ربما معظم هذه الأفلام كانت من النوع المستقل». ويكمل مقارنته بالقول: «اليوم ليس هناك حاجة كبيرة إلى السينما الأميركية لكي تشترك، ولا مهرجان «كان» يمثّـل ما كان يمثله سابقاً بالنسبة لهوليوود». - لماذا؟ «لأنّ السينما تتغير تكنولوجياً إلى حد يتجاوز أهمية (كان) بحد ذاته. لماذا عليّ أن أرسل بفيلمي إلى (كان) مع مخرجه وممثليه والطاقم الإداري والإنتاجي، وأتحمل تكاليف تصل إلى أكثر من مليون دولار بكثير إذا لم يكن هناك فائدة تجارية مجزية؟». - بمعنى أنّ جائزة «كان» لا تعني الكثير على المستوى التجاري. «قد تعني في فرنسا وتعني في بعض الدول الأخرى، لكن لا تعني الكثير مطلقاً في الأسواق الكبرى الأخرى، وخصوصاً هنا في أميركا». ما يُقال هنا هو أنّ هوليوود التي على الرّغم من اشتراكها في أفلام لجديرين بينهم هال آشبي وبوب رافلسون وكلينت ايستوود، قلّـما استطاعت الفوز بجوائز كبرى في المهرجان الفرنسي؛ إذ كانت اختيارات لجان التحكيم تميل غالباً لتفضيل أفلام أوروبية، لكن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تنتفي الحاجة إلى «كان» التي كانت، وحتى حين قريب، حاجة إعلامية هدفها تعزيز إنتاجات فنية الجانب لأمثال غس فان سانت، أو هال بارتلت، أو ديفيد لينش، لكن حتى هذه - وفي كثير من الأحيان - كانت من تمويل فرنسي جزئياً ما يعني أنّ الحاجة الفعلية إلى كبار المؤسسات الهوليوودية بما فيها فروع إنتاجاتها المستقلة، انحسرت عما كانت عليه لسببين مهمين. يشرح توم برنارد، رئيس «سوني بيكتشرز كلاسيكس»، السبب الأول بقوله: «في السابق كناّ نحتاج إلى الهالة الكبيرة التي يوفرها (كان) للفيلم المستقل الذي نتعامل معه هنا. الآن لم نعد في حاجة إلى أي ترويج مسبق. الترويج يحدث تلقائياً عبر الوسائط الاجتماعية. الطريقة التي يكشف فيها الفيلم عن وجوده باتت مختلفة تماماً». يضيف: حلقات السلسلة «أيضاً، وهذا بالنسق إلى (كان) تحديداً، وأيضاً بالنسبة لمهرجانات أخرى تقع في النصف الأول من السنة، نعتبر أن الفارق الزمني بين (كان) في الربيع بين موسم الجوائز الأميركية، خصوصاً جائزتي الأوسكار وغولدن غلوبس في مطلع الشتاء، كبير بحيث لا يضيف (كان) إلى الأفلام أي فاعلية تذكر». الحال إذن، استيحاء من هذا الكلام، أنّ هذا البعد الزمني بين الأفلام الأميركية التي قلّما تفوز على أي حال وبين المهرجان الفرنسي أصبح ماثلاً أكثر من ذي قبل، ويضيف عبئاً على مهرجان أمّـه مئات النجوم في تاريخه. الحاصل، هو أنه بابتعاد السينما الأميركية عن «كان»، يبتعد الممثلون أيضاً. ومع أنّ هناك فيلمين أميركيين هذه السنة أحدهما للمخرج سبايك لي العائد بعد غياب طويل بفيلم «بلاك كلانسمان». لكن هذا الفيلم بلا نجوم (إلّا إذا اعتبرنا آدم درايفر نجماً). الفيلم الأميركي الآخر هو «تحت البحيرة الفضية» (للجديد ديفيد ميتشل) المكتفي بممثل معروف واحد هو أندرو غارفيلد. بالتالي، الورطة المنتظرة في «كان» هذه السنة هي عن وجود نجوم أميركيين كافين لإرضاء الإعلام المرئي والمسموع والمطبوع معاً. المسألة، ما دام الوضع على هذا الحال، تتحول إلى حلقات كل منها تؤثّر على الأخرى كالعمود الفقري. فما يبدأ بغياب الأفلام الأميركية ونجومها ليمتد إلى الإعلام سيمتد كذلك إلى السوق التجارية. تلك الآلة الضخمة التي شيدها المهرجان قبل سنوات عدة. هذا التأثير لن يتبدى الآن، لكن إذا ما استمر الحال عليه سيتبدى لاحقاً ما سيجعله محطة أوروبية - آسيوية - أفريقية ناشطة إنّما من دون كثير حضور وتأثير من جانب الجزء الشمالي من القارة الأميركية التي تجد أنّ لديها - في كل الأحوال - أربع محطات مهمة لترويج أفلامها وبيعها هي مهرجان صندانس السينمائي، وسوق الفيلم الأميركية، ومهرجان تورونتو الكندي و- إلى حد - مهرجان ترايبيكا في نيويورك. المحصلة هي أنّه عالم دوّار يصعد بالجديد ويهبط بالقديم، والخوف أنّ هذا ينسحب حتى على مهرجان بقيمة وحجم مهرجان «كان».

مشاركة :