بعد مرور 10 أعوام من بداية الأزمة المالية العالمية، شجع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البحث عن بديل للدولار الأمريكي باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، مع تخليه الكامل عن الانضباط المالي الأمر الذي يمكن أن يبرهن على نهاية الانتعاش الاقتصادي الأمريكي، بحسب جون جيه. هاردي، كبير استراتيجيي الفوركس لدى «ساكسو بنك». ويتجه الدولار حالياً نحو مزيد من الضعف في قوته الشرائية، حيث بدأت حالته كعملة احتياطية بالتبدد الآن أكثر من أي وقت مضى، ولكن تبقى المشكلة الحقيقية متمثلة في التفاصيل التي ستؤدي إلى وصوله إلى هذه الحالة.ويقول هاردي: «ينبغي الإشارة في هذا السياق إلى مصطلح «معضلة تريفين»، التي تستند في تسميتها إلى الخبير الاقتصادي الأميركي - بلجيكي الأصل - روبرت تريفين ودراسته النقدية حول استخدام الدولار الأمريكي كمعيار عالمي ضمن إطار نظام أسعار الصرف الذي حددته اتفاقية «بريتون وودز» للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.» وتشير «معضلة تريفين» إلى حالة عدم الاستقرار الحتمية عندما يتم استخدام إحدى العملات الوطنية كعملة احتياطية رئيسية عالمية يتعين عليها إدارة عجز مالي مستمرّ وواسع النطاق. ولكن هذا العجز المالي يهدد بتقويض الثقة بقيمة هذه العملة في نهاية المطاف.يشكل الدولار بالطبع محور أي من تحليلات «معضلة تريفين»، حيث يشكل فك ارتباط الدولار مع الذهب في عام 1971 الفصل الأول من القصة الملحمية المستمرة لوضع الدولار بوصفه العملة الاحتياطية العالمية الرئيسية. وبينما نتطلع نحو الفترة المتبقية من عام 2018 وما بعدها، فإننا نتوقع بأننا نقترب من نهاية الدور الذي يلعبه الدولار في الاقتصاد العالمي.وقال هاردي: «ونحن نسير حالياً بخطى متسارعة لتجاوز سياسات البترودولار والاقتصاد السياسي لمنطقة آسيا التي ساهمت في دعم القوة الشرائية للدولار في الفترة بين سبعينات القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثانية. واستمرت هذه الحالة حتى نشوء الأزمة المالية العالمية في الفترة بين عامي 2008 - 2009، التي أدت إلى الكشف عن زيادة الاختلال الوظيفي للنظام المالي العالمي المرتكز على الدولار الأمريكي». وأدى انهيار أسعار الأصول حول العالم إلى حدوث اندفاع هائل للسيولة النقدية في النظام المالي العالمي نتيجة لانتشار عدوى الهلع من إجراءات خفض ديون الشركات. ونتيجة لزيادة عدد الأصول حول العالم وارتفاع نسب التمويل قصير الأجل بالدولار، اضطر «مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي» إلى اتخاذ إجراءات لا تهدف إلى إنقاذ النظام المالي الأمريكي فحسب، وإنما النظام المالي العالمي بأكمله، حيث قام المجلس بإفساح المجال أمام ترتيب مقايضات ضخمة بهدف توفير سيولة نقدية بالدولار الأمريكي للبنوك المركزية الأجنبية. ولكن ذلك لم ينطبق على الاقتصادات الرئيسية في آسيا وأوروبا فحسب، وإنما امتد ليشمل مناطق بعيدة مثل البرازيل ونيوزيلندا. ونجح هذا الطوفان الكبير للسيولة في إنقاذ النظام المالي العالمي دون الحاجة إلى معالجة جوانب الضعف الأساسية للنظام واعتماده على قوة الاحتياطي الفيدرالي لإنقاذه.ميزانيات سياديةولكن للمفارقة أيضاً، فقد أفضت السياسات النقدية البسيطة واللاحقة ل «مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي»، والتي كانت تهدف بشكل أساسي إلى حفز تعافي الاقتصاد الأمريكي المنهك، من دون قصد مسبق إلى فقاعة ائتمان جديدة في الأسواق الناشئة حول العالم والتي تمتعت بميزانيات سيادية صافية إلى حد ما، في الوقت الذي لم تتعرض فيه اقتصاداتها الحقيقية إلى هزة قوية نتيجة لانعكاسات الأزمة المالية على الأسواق المتقدمة. ويمكن القول باختصار، كانت الجهات المقترضة في الأسواق الناشئة أكثر سعادة نتيجة لتمكنها من اقتراض أموال «مجانية» عالمية بالدولار الأمريكي من دون تكبد دفع فوائد حقيقية عند تمويل أنشطتها الجديدة.وبحلول العام 2011، بدأ نمو فقاعة الأموال السهلة الناجمة عن سياسات «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» بالتباطؤ في الأسواق الناشئة. وفي عام 2013، بدأت هذه الفقاعة بالتلاشي على نحو سيىء للغاية، حيث بلغت هذه العملية ذروتها أواخر العام 2015 وبداية العام 2016 عندما أشار المجلس للمرة الأولى بأنه سيقوم بخفض مشتريات التخفيف الكمي في عام 2013، ثم التوقف عنها بشكل كامل بنهاية العام 2014.أما اليوم، فقد شهدت محفزات السياسات الاقتصادية حول العالم تغيراً جذرياً أو شبه كامل، حيث بدأت أولويات النمو في الصين بالتحول نحو التركيز على الارتقاء بمستوى معيشة جميع مواطنيها وتطبيق السياسات البيئية، فضلاً عن مساعي بكين الرامية إلى معالجة فقاعة الائتمان الخاصة بالبلاد. بينما يواصل «مجلس الاحتياطي الفيدرالي» اتباع سياسة التشدد المالي، إلى جانب وجود مؤشرات بنيّته تقليص ميزانيته العمومية بوتيرة متسارعة. ويضاف ذلك إلى الوعود التي قطعها «البنك المركزي الأوروبي» والمتمثلة بالتوقف نهائياً عن عمليات شراء الأصول في أواخر هذا العام. في حين بقي «بنك اليابان» الوحيد الذي يستمر بتطبيق سياساته على نحو متباطئ، بالرغم من قيامه هو الآخر بخفض أسعار مشتريات الأصول خلال العام الماضي.وجاءت إزالة محفزات السياسات المالية العالمية نتيجة طبيعية في الوقت الذي استطاع فيه الاقتصاد العالمي أخيراً تحقيق نمو متزامن على مدى فترتين ربع سنويتين في العام 2017. ولكننا نرى بأن هذا النمو يعتبر ضعيفاً ومتأخراً للغاية، خاصة وأن دورة الائتمان في كل من الولايات المتحدة والصين قد بدأت للتو. بينما أصبحت التحديات المحدقة بالأسواق أقرب من أي وقت مضى.انعدام الاستقراروبصرف النظر عن التراجع المستمر في قدرة البنوك المركزية على التكيف وتجميع مخاطر الركود الاقتصادي، فقد شهد الربع الأول من العام قيام إدارة الرئيس ترامب بإضافة اثنين من عوامل انعدام الاستقرار إلى النظام المالي العالمي غير المستقر أساساً، والتي ستسهم في تسريع وتيرة انهياره الكامل.ويتمثل أول هذه العوامل في تصعيد لهجة الخطاب المتعلق بحماية اقتصاد الولايات المتحدة والذي يستهدف الصين بالدرجة الأولى، ويمكن أن يؤدي إلى إطلاق مجموعة كاملة من الردود المحتملة من جانب الصين. ولا شك أن هذه الردود ستتضمن سعي الصين إلى الحد من هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة والأسواق المالية العالمية.وقد سبق وأن أشار تشو شياو تشوان، الخبير المصرفي الصيني الكبير، في عام 2009 إلى دور الدولار الأمريكي في نشوء «معضلة تريفين» التي ساهمت في حدوث الأزمة المالية العالمية. ويرى بعض الخبراء الماليين أيضاً بأن إبرام العقد النفطي المستند إلى اليوان الصيني والذي شهدناه خلال الربع الأول من هذا العام، يندرج في إطار الجهود الرامية إلى استبدال، أو على الأقل منافسة مفهوم البترودولار من خلال إطلاق مفهوم «البترويوان» ضمن مفاهيم التجارة العالمية؛ وهو أمر منطقي إلى حد بعيد بالنظر إلى أن الصين قد استولت على مكانة الولايات المتحدة كأكبر مستورد للنفط على مستوى العالم. علاوة على ذلك، فإنه يتعين على المرء تكوين صورة واضحة حول الأهداف بعيدة الأمد لاستراتيجية «حزام واحد طريق واحد» الصينية، ودورها في إنشاء وتعزيز الترابط بين المراكز التجارية عبر قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا والتي ستسهم في زيادة التركيز على وحدات القيمة الصينية، أو على الأقل تنامي تأثيرها.أما العامل الثاني فيتمثل في نظام ترامب الضريبي الجديد والذي أدى إلى نشوء حالات عجز مالي غير مسبوقة خلال مرحلة التوسع في دورة النمو الأمريكية - بمقدار يبلغ تريليون دولار أمريكي في ميزانية السنة المالية القادمة. وينطوي دخول الولايات المتحدة حالة من التراجع على مدى فترة تتراوح بين 12-18 شهراً القادمة (من وجهة نظرنا) على مخاطر لا تحمد عقباها. فعلى الرغم من التخفيضات الضريبية، فإن الفجوة المالية ستمتد على نحو يفوق ما شهدناه خلال الأزمة المالية بما يقارب 12% من الناتج الإجمالي المحلي. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة تعاني عجزاً كبيراً في تمويل الحسابات الجارية، مما يحتم عليها تمويل هذا العجز برؤوس الأموال الأجنبية - وبقيمة تقل على الأرجح عن قيمة الدولار الأمريكي.وبالإضافة إلى الحاجة الملحة للبحث عن بديل للدولار، ثمة حاجة إلى إجراء خفض لقيمة الديون المقوّمة بالدولار، والتي يعود سبب زيادتها إلى تأرجح منظومة الدولار خارج البلاد والتي أوصلت التمويلات العالمية إلى حالة الكساد في عامي 2008 - 2009. وخلال شهر سبتمبر الماضي، أشارت تقديرات «بنك التسويات الدولية» إلى أن صافي الديون والمشتقات المالية للمنظومة المالية خارج الولايات المتحدة والمقوّمة بالدولار الأمريكي قد بلغ 25 تريليون دولار. ولم يعد بمقدور العالم تحمل حدوث كارثة تمويل أخرى للدولار الأمريكي، والتي بدأت فعلياً بشكل جزئي من خلال قيام ترامب بإجراء تخفيضات ضريبية على الشركات، مما يشجع الشركات الأمريكية على إعادة مئات مليارات الدولارات الأمريكية من الخارج نحو الولايات المتحدة، ويؤدي إلى استنزاف السيولة من المنظومة المالية خارج الولايات المتحدة. ويُمكن لذلك أن يشكل - إلى جانب إمكانية تزامنه مع إجراءات التشدد الكمي المتخذة من قبل «مجلس الاحتياطي الفيدرالي»، أسوأ ارتفاع في «سعر الفائدة بين بنوك لندن» على الدولار الأمريكي (USD LIBOR) مقابل السعر الرسمي للمجلس منذ الأزمة المالية العالمية.ومن هنا، فإنه يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ما هو المسار الذي يمكن للدولار الأمريكي أن يسلكه الآن، وما الذي يمكن أن يحل مكانه؟ ستؤدي جميع المسارات المحتملة التي سينتهجها الدولار إلى انخفاضه في نهاية المطاف، ويضاف إلى ذلك العوامل التقليدية الأساسية (المتمثلة في تراجع الاقتصاد الأمريكي والنقص الحاد في تمويل الحسابات الجارية) والتي تشكل المؤثرات السلبية الأكبر على الدولار الأمريكي.وبناءً على ذلك، فإن انخفاض الدولار الأمريكي أمام الين الياباني إلى 90 ين، وأمام اليورو إلى 1.35 يورو، لن يشكل مفاجأة كبيرة. ولكن «معضلة تريفين» ستسهم في تعقيد مسار تخفيض قيمة الدولار الأمريكي على المديين القصير والمتوسط والتي ستحدث بشكل محتوم على المدى الطويل، حيث سيفقد الدولار في إحدى هذه المراحل بعضاً أو كامل قيمته كعملة احتياطية. في حال واصل النظام العالمي مسيرته على هذا النحو، فثمة احتمال بنشوء مخاطر سيولة أخرى ترتبط بالدولار الأمريكي في حال شهدنا حالة جديدة من الهلع المالي .«حقوق السحب الخاصة»قال جون جيه. هاردي إنه يتعين إدراج بعض الأصول الاحتياطية الجديدة في قلب هذا النظام الجديد، حيث اقترح خبراء إمكانية الاستعانة ب «حقوق السحب الخاصة»، وحقوق السحب الخاصة المدعومة بالذهب وغيره من الأصول المشابهة. وفي حال عدم اتخاذ مثل هذه الإجراءات، فإن أزمة الدولار الأمريكي الجديدة يمكن أن تطغى على النظام المالي بدون وجود إجراءات منسقة، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى مخاطر تتعلق باتساع نطاق عجز سداد الديون، وتقلبات غير مسبوقة في أسعار الصرف، وتكرار حالة منطقة البلقان مع النظام المالي العالمي والتي تتمثل في عدم وجود أي مؤشرات على توفير أي أصول احتياطية وتقسيم العالم إلى مناطق نفوذ.ويبقى التساؤل المطروح هو فيما إذا كانت النخب العالمية قادرة على التحرك السريع في أزمة الدولار من خلال إطلاق عملية إعادة تشكيل ضخمة للنظام المالي العالمي دون الحصول على إذن/ موافقة/ تصريح من السلطات السياسية ذات الأنظمة الديمقراطية.
مشاركة :