عندما انزوت تركيا العلمانية منذ عهد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك على خلفية انهيار الدولة العثمانية، كان ذلك الانزواء والعودة إلى الأولويات الوطنية التركية الداخلية من أفضل ما حدث في تاريخ الأناضول. فخلال فترة انشغال تركيا بشؤونها، تلمّس الأتراك طريقهم نحو بناء مجتمع حديث ومنفتح. ورغم الصعوبات الاقتصادية وسطوة المؤسسة العسكرية وضغوط الجنرالات وتدخلهم الدائم ووصايتهم على الشأن العام لحماية النهج العلماني، إلا أن ما ميز تلك الفترة، بعد أن انتهت دولة “الرجل المريض” وانقرضت أوهام الدولة العثمانية، أنها كانت واعدة بمراحل كثيرة لا تقاس مع التراجع والانتكاس التدريجي الذي تمضي فيه تركيا اليوم، على يد رجب طيب أردوغان ومن يخدعهم بأحلامه القائمة على استعادة خرافة سلاطين بني عثمان الزائلة. لقد كانت الجغرافيا العربية إلى جانب منطقة البلقان المحورين الجغرافيين اللذين ترجمت من خلالهما الدولة العثمانية سلطتها الدينية تحت شعار الخلافة. فارتكبت مجازر فظيعة لا تنسى في أرمينيا، ونهبت وسيطرت على آثار وثروات الشعوب العربية، كما قامت بسجن وتعذيب الأحرار الذين كانوا يقاومون الاحتلال العثماني، ويرفضون سياساته التي اعتمدت على نشر وتعميم البؤس والفقر والتجهيل. وعلى إثر التاريخ الأسود للوجود العثماني كان المؤرخ العربي المنصف يتسق مع الاجتهاد والتنوير الذي بدأ بإخضاع مفهوم الخلافة للنقد، باعتباره، منذ صعود الدولة الأموية ثم العباسية، كان ستارا زائفا يستخدم الدين لبناء سلطة دنيوية تلبية لأطماع بشرية، لا شأن لها بتمثل الشريعة أو حماية الإسلام. ونتيجة لهمجية وغباء الاحتلال العثماني وقسوته الشديدة، امتلك العرب حتى اليوم حصانة قوية ضد الاحتلال التركي وتطلعاته المتجددة. ومهما ارتدت الأطماع التركية من قمصان عثمانية أو إخوانية فإنها أصبحت في خانة غير المرحب بها نفسيا في الوجدان الثقافي العربي. كما أن الأتراك بدورهم خسروا الآلاف من الجنود في المنطقة العربية أثناء فترة تواجدهم العسكري والإداري، وبالتالي فإنهم يتشاءمون بشدة من ذكريات الماضي القريب الذي تحولت فيه العديد من الأقطار العربية إلى مقابر للغزاة الأتراك. كان الاحتلال التركي عاجزا عن التقرّب من المجتمعات العربية. وظلت الهوية الثقافية للعرب عصية على التفتت أو الانهيار والاندماج بثقافة المحتل، رغم الجهود التي بذلتها إسطنبول لمحو الثقافة العربية بوسائل عديدة، من بينها طباعة ونشر صحف بدائية باللغة التركية. وفي المقابل عجز الأتراك عن استيعاب وفهم دور المخزون الثقافي العربي في حماية الهوية المرتبطة بشكل وثيق بالإسلام، مما جعل دعاوى تمثيل الخلافة الإسلامية من قبل الأتراك كذبة كبرى سقطت بسهولة أمام الممارسات العدوانية وكل ما يتصل بسلوك الغازي التركي الذي وضعه في موقع المحتل الأجنبي الغريب عن الدين والهوية والروح الإسلامية. كما شملت الهمجية العثمانية إدخال وسائل التعذيب والبطش غير المعهودة من قبل، إلى جانب التوحش التركي في الجباية وأساليب النهب التي ترافقت مع احتلالهم للمنطقة، ما أشعل الغضب ضدهم ودفع المؤرخين العرب إلى رصد وتوثيق جرائمهم. لذلك نجد للاحتلال العثماني سمعة سيئة في الوعي العربي، رغم تلبّس ذلك الاحتلال بالدين وبمفهوم الخلافة. ورغم تعرّض المنطقة العربية لغزوات وأشكال متباينة من الاحتلال على يد القوى الاستعمارية الأجنبية في العصر الحديث ابتداء بالبرتغال، إلا أن المؤرخين يعتبرون أن الاحتلال التركي الذي اجتاح المنطقة العربية على فترات باسم الخلافة العثمانية هو الأسوأ، ولم تسلم من ذلك الزحف الهمجي المتخلف على مستوى الجغرافيا العربية سوى الإمارات وعُمان والمغرب. وتلك التجربة القاسية للعرب مع الدولة العثمانية منحتهم حصانة مستقبلية، تجعلهم حتى الآن في حالة توجّس ورفض للتطفّل التركي، الذي يفكر باستعادة نفوذ المرحلة العثمانية بوجوه جديدة وأفكار قديمة. كما أن أحد أبرز مساوئ الاحتلال التركي يتمثّل في قيام تركيا بتسليم تركتها من الأقطار العربية لقوى استعمارية أخرى تمثلت في الاحتلال الأوروبي البريطاني والفرنسي والإيطالي، وذلك عندما وصلت الدولة العثمانية إلى المرحلة التي عرفت فيها بالرجل المريض، أي الكيان العاجز عن حماية نفسه وما يقع تحت يده، والعاجز كذلك عن حماية مصالح حلفائه. من الحقائق التي لا بد أن الأتراك المطّلعون على أهداف التيار الإخواني الحاكم لتركيا يدركونها جيدا، أن ذلك التيار يقود بلادهم إلى نفق الكراهية وانعدام ثقة الآخرين بتركيا المعاصرة، بدليل تزايد ردود الفعل العربية تجاه أطماع النظام الإخواني بقيادة أردوغان. وسبق أن اكتوى المجتمع التركي بأوهام الخلافة ودفع ضريبة غالية من أرواح أبنائه ومن مستقبل الأجيال التركية القادمة، عندما كانت الدولة العثمانية تبرر تمددها العسكري العبثي برفع راية الخلافة. لذلك فإن هيمنة الحنين إلى زمن الخلافة على وعي حكام تركيا الجدد سوف يقود الأتراك إلى مستنقع الانهيار مع مرور الوقت، لأن اللحظة الراهنة بتحدياتها الاقتصادية في ظل تذبذب الأوضاع العالمية تستدعي التركيز مرة أخرى على الشأن التركي والعودة إلى وصايا أتاتورك، بعيداً عن النوستالجيا المرضية التي تداعب مخيّلة أردوغان، وفي سبيلها لا يهمه أن يضحّي بمستقبل الشعب التركي. وتأكيداً لغرام أردوغان بالحنين إلى ماضي الخلافة العاطفي والتزامه بأدبيات الإسلام السياسي، لا ننسى أن آخر مرة تعرّض فيها للسجن كانت في عام 1998 إثر قيامه بالتحريض على الكراهية الدينية. ونتيجة لذلك صدر حكم بسجنه وتم منعه بالفعل من العمل في الوظائف الحكومية، وترتب على ذلك الحكم أيضاً حرمانه آنذاك من الترشيح للانتخابات العامة. وكانت خلفية هذه الواقعة قد بدأت عندما قام أردوغان باقتباس أبيات من شعر تركي يحمل مضموناً إسلامياً حركياً في مضمونه، كما نلاحظ من سياق الكلمات التي أدخلت أردوغان السجن أنها لا تختلف عن شعارات وأناشيد خلايا تنظيم الإخوان في المشرق العربي: “مساجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا هذا الجيش المقدس يحرس ديننا”. بعد تلك الواقعة واصل أردوغان مخططه، ولم يتراجع عن الاستفادة من الانتكاسات المتكررة التي كان يتعرض لها أستاذه نجم الدين أربكان بفعل الحظر المتكرر لأنشطته، فقام أردوغان مع آخرين بتأسيس الذراع السياسي الجديد لإخوان تركيا تحت اسم حزب العدالة والتنمية عام 2001. وتعرّض المجتمع التركي والقاعدة العلمانية العريضة لخديعة كبرى، عندما أعلن المتأسلمون أن حزبهم لن يمسّ مبادئ العلمانية والنظام الجمهوري ولن يتدخل في صلاحيات القوات المسلحة التركية. ولتمرير الخدعة قال أردوغان حينها “سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضّر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية”. ومن يراجع جهود أردوغان من أجل السيطرة الكاملة على مؤسسات الحكم في تركيا سوف يلاحظ التدرّج المرحلي في تنفيذ المخطط الإخواني. وبالعودة إلى هوس حكام تركيا الجدد بأسطورة الخلافة، ورغم أن الثقافة النقدية العربية ذات الطابع التنويري لها موقف حاسم تجاه موضوع الخلافة، وأنه مجرد غطاء للتسلط الكهنوتي باسم الدين، إلا أن الوقائع التاريخية لا تزال تشير إلى أن أحوال العرب وشؤونهم أثناء الدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية كانت أكثر رقيّا وحضارة وقوة وإنتاجا، مقارنة بالكارثة التي حلّت على الإنسان العربي أثناء احتلال الأتراك لدول المنطقة العربية وتحويلها إلى بلدان متخلفة. وبعد حقبة سوداء من التواجد التركي تعرضت المنطقة لاحقاً للتشظي والانقسام إلى دويلات، ثم وقعت تحت الاحتلال الأجنبي كما أشرنا. وبالتالي من الصعب اليوم أن يراهن أنصار العثمانية الجديدة على خطابات أردوغان التي تتمسح بالدين، وتغازل عقول من فقدوا الولاء لأوطانهم، وفضلوا عليها المكوث في فنادق إسطنبول. كما لا يمكن أن تمحى بسهولة من سجلات التاريخ الصفحات السوداء التي تحكي عن الاحتلال التركي الهمجي للمنطقة، وبسببه ستبقى تركيا العثمانية العدو اللدود للعرب في الذاكرة، إلى جانب الفرس الذين يتضاعف خطرهم بقدر نزعتهم الطائفية.
مشاركة :