لا يزال أردوغان يعيش أوهام استعادة «الإمبراطورية العثمانية»، والتي تقوم على التمدد في دول الجوار والسيطرة على مقدراتها وثرواتها المختلفة، واستثمار أزمات المنطقة في تحقيق حلمه التاريخي، فحينما اندلعت أحداث ما يسمى«الربيع العربي» لم يألوا جهداً في تقديم كافة أشكال الدعم لتيارات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة «الإخوان»، من أجل الوصول إلى السلطة، والترويج آنذاك لمشروع «الإسلام السياسي»، باعتباره البديل الأمثل لدول المنطقة، ومن ثم قيادة هذا المشروع والانطلاق منه لإحياء الامبراطورية العثمانية، لكن هذا المشروع لم يصمد كثيراً وانهار بسقوط حكم «الإخوان» في مصر. إن المتتبع لسياسات أردوغان خلال الأسابيع الماضية في كل من ليبيا وسوريا واليمن يدرك بوضوح خطورة مشروع التمدد التركي في المنطقة، ويكتشف في الوقت ذاته مدى ازدواجية المواقف التي تتبناها حكومة حزب «العدالة والتنمية»، ففي الوقت الذي أكدت فيه على لسان وزير خارجيتها مولود أوغلو، أهمية العمل على إنهاء الصراعات والسعي الجاد للحوار والمصالحة في ظل جائحة كورونا، فإذا بها تستثمر هذا الوباء وانشغال العالم به في مواصلة مخططاتها التدميرية في دول الأزمات. ففي ليبيا واصلت إمداد الميليشيات الإرهابية بالمال والسلاح، وإرسال المقاتلين الأجانب من سوريا إلى الميليشيات المسلحة التابعة لـ«حكومة الوفاق»، كما قامت بالتوقيع على اتفاق ترسيم حدود بحرية مع فايز السراج يتيح لها التوغل والسيطرة على مقدرات وثروات الشعب الليبي من النفط والغاز. أما في سوريا، فإنها ما تزال تواصل تغلغلها في منطقة الشمال السوري، والعمل على تغيير«ديموغرافيتها وهويتها العربية»، بالتعاون مع الفصائل السورية المعارضة الموالية لها من خلال نشر الثقافة واللغة التركية واحتكار المشاريع الاقتصادية الرئيسية في هذه المنطقة، في محاولة لـ«تتريكها»، تمهيدًا لضمها لسيادتها بشكل نهائي في المستقبل. وفي اليمن تسعى تركيا إلى تقديم الدعم لـ«حزب التجمع اليمني للإصلاح»، أو«إخوان اليمن»، تحت ستار العمل الإغاثي والإنساني، فضلاً عن تقديم الدعم الإعلامي من خلال بث العديد من القنوات «الإخوانية» من مدينة إسطنبول مثل، «بلقيس»، و«يمن شباب»، و«المهرية» وغيرها، في محاولة لاستهداف دول التحالف العربي، والتشكيك في مواقفها في اليمن. إن التدخل التركي في الأزمة اليمنية والدعم الذي تقدمه لحزب «التجمع اليمني للإصلاح» هو نفس ما تفعله إيران، حيث تقف وراء ميليشيات «الحوثي» الإرهابية، فكل من الدولتين يسعى إلى تعزيز نفوذه في اليمن، وتوظيف الميليشيات أو الجماعات التي يدعمها كورقة للمساومة والابتزاز السياسي الرخيص، في وقت تحرص فيه دول التحالف العربي على إيجاد حل سياسي يضمن لليمن وحدته واستقراره وسلامة أراضيه. إن تصريحات أردوغان في شهر فبراير الماضي، التي قال فيها:« لايجوز حصر تركيا في مساحة مقدارها 780,000 كيلومتر مربع، مصراتة في ليبيا، وحلب وحمص والحسكة في سوريا هي حالياً خارج حدودنا الفعلية؛ لكنها داخل تخومنا العاطفية، وسنجابه كل هؤلاء الذين يحدّدون تاريخنا بالسنين التسعين الماضية فقط»، إنما تجسد بوضوح أحلام«العثمانية الجديدة»، التي يسعى من خلالها أردوغان إلى إحياء الإمبراطورية التركية التي تضم أراضي عربية والاستيلاء على ثرواتها ومقدراتها والتحكم في شعوبها، ويتصور الآن، مع انشغال العالم بمواجهة وباء كورونا، أنه يستطيع فرض أمر واقع في دول الأزمات والصراعات، يخدم طموحاته التوسعية. إن أحلام أردوغان في استعادة«العثمانية الجديدة» ليست سوى أوهام تعيش في مخيلات شخص يعيش في برج عاجي منعزل عن الواقع، فالشعوب التي اعتادت على الحرية لا يمكن أن تقبل ثانية بالعودة إلى زمن الإمبراطوريات المجحفة، كما أن التطلع إلى إحياء دولة الخلافة الإسلامية وتنصيب نفسه «خليفة المسلمين»، لا يمكن أن يتحقق أبداً، ليس فقط لأن الخلافة ارتبطت بعصر الصحابة وبظروف معينة لم تعد قائمة في عصرنا الراهن، وإنما أيضاً، وربما الأهم، أن سياسة أردوغان، وبما تتسم به من انتهازية ونفعية ووصولية ومتاجرة بالأزمات الإنسانية، لا يمكن أن تجعل منه في أي حال قائداً للعالم الإسلامي.
مشاركة :