إياد شماسنة: أنا الإبن البارّ لغسان كنفاني ... إبداعياً

  • 5/8/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

إياد شماسنة روائي وشاعر وناقد فلسطيني، من أعماله الروائية: «امرأة اسمها العاصمة»، و«الرقص الوثني»، ومن أعماله الشعرية: «التاريخ السري لفارس الغبار»، و«حدائق الكريستال». يتكئ على مادة إبداعية فلسطينية ليسرد أحوال شعبه، ويؤرخ سياقات الشتات، ودائماً تبدأ أعماله الأدبية بالإنسان وتنتهي به، ملتفتاً إلى جماليات الحياة والأمل وإلى توصيف عالم غنائي يتمازج فيه الرجال والبنادق والمقاومة وإرادة متفائلة. هنا حوار معه: > في «الرقص الوثني» تمكنتَ عبر الرواية من طرح القضية الفلسطينية بإبراز التاريخ الإنساني قبل المادي، فهل كان ذلك عن قصد؟ - القضية الفلسطينية قضية الإنسان الذي يصطبغ لونه بلون عنب الأرض، ويلفح وجه وهجُ شمسها، هو الذي عمَّر الأرض آلاف السنين واختلط دمه بترابها، غزاه الغزاة بكل الأسماء والمبررات، مستعمرين وفاتحين وقطاع طرق، وجاءته الأديان الوثنية أو اخترعها، ثم استقبل الديانات الإبراهيمية واستوعبها، وهو الذي كان ضحية صراعات أصحاب المصالح، والثارات، والكراسي والراغبين في العروش، بدءاً من الحروب البدائية الأولى حتى تخلي آخر الأشقاء عن خريطته التاريخية. رواية «الرقص الوثني» تتحدث عن الإنسان بسبق إصرار، بقوته وضعفه، جبروته ومكره، الإنسان الفلسطيني الذي يصيب ويخطئ. أتعامل مع أهلي على أنهم أناس عاديون، أصحاب وطن سليب، ضحايا للاستعمار والفقر والجهل أو التجهيل. حتى الآخر الذي يؤسس لأسطورته الملفّقة، هو إنسان بلا إضافات ولا هالات، ينبغي التوقف عن التعامل معه كأنه وحش أسطوري ذو رؤوس متعددة، أو كأنه ميدوزا برؤوس الأفاعي. إن له نقاط ضعف استقوت على ضعفنا بتغافلنا أو بتحالف الأعداء علينا، ولنا نقاط قوة تجاهلناها أو لم نعرفها بعد، لذلك ينبغي إعادة النظر من جديد في تأليه الضحايا أو شيطنة الأعداء، ذلك لا يحرر فلسطين ولا يخدم القضية الفلسطينية، ولا ينصف الإنسان العادي، الإنسان الفلسطيني بكامل ملله وأطيافه، وشتاته. > كتبت الرواية بعين روائي مقدسي، تؤرخ للمجازر الصهيونية، ورغم ذلك هناك نبرة تسامح تسود الرواية... هل تعتقد بجدوى المسلك (الغاندي) مع العدو؟ - في «الرقص الوثني» لم يكن مطلوباً مني التحيز أو التسامح. تعاملت مع الأحداث والشخصيات بموضوعية، وبمنهج علمي. دخلت بيوت الشخوص، وغرف نومهم وتذوقت ملحهم وخبزهم، أو خبزنا الذي نهبوه، تجولت في الشوارع والحانات، والنوادي الليلية، قرأت عنهم وتقمصتهم تقريباً، بعض القراء قال إني أعرف الآخرين، النقيضين، أكثر من مجاوريهم في المدن المختلطة، ذلك يقترب من الحقيقة، لأني لم أكتف بالخيال والتحليق واختراع السرد، وإنما بنيت الشخصيات بشروطها الفنية، مرة أخرى أنزلت الإنسان عن عرش الخرافة وتعاملت معه مجرداً دون أسطورة. التسامح الذي تذكره، أصيل في الشعب الفلسطيني، لكن الرواية شيء آخر تماماً. الرواية إما أن تكون موضوعية أو تصبح خطاباً سياسياً. أعتقد أن للمسلك الغاندي ظرفه الخاص وشروطه التي لا تتوفر في الحالة الفلسطينية، ومع ذلك فأني أتبنى ما طرحه جوزيف ناي حول القوة الناعمة بكامل إحداثياتها العلمية والدبلوماسية والثقافية والقانونية، إضافة إلى جانب أشكال أخرى مساندة وشرعية للنضال، لا تنفيها ولا تتجاهلها. > هناك مَن يرى أنك في تلك الرواية تستكمل رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني... ما رأيك؟ - أعتقد أن «عائد إلى حيفا» مكتملة البناء الفني والإبداعي، ولا تحتاج إلى «الرقص الوثني» لاستكمالها. الأكثر صواباً هو القول إني و «الرقص الوثني» تكاملنا مع غسان كنفاني و «عائد إلى حيفا». تلك تقنية نادرة في الأدب العربي لكنها معروفة عالمياً في الأدب والسينما. استعرت شخصية من شخصيات غسان كنفاني وتقاطعت مع مصيرها، وحدّت الأجيال وربطت بينها، جيل النكبة الذي واجه إسرائيل عام 1948، وجيل العام 2017 الذي شهد عدداً من الحروب وانهيار عدد من العروش العربية وتبديل الحكومات وصعود اليمين عالمياً. ستبقى «عائد إلى حيفا» أثراً خالداً ومؤسساً في الأدب الفلسطيني، وأستطيع أن أقول إني ابنٌ بار لغسان كنفاني إبداعياً. يشرفني اقتران اسمينا. > غالباً ما يؤدي التنوع العرقي والإثني والديني إلى شيوع روح التسامح بين البشر مثل الإسكندرية في القرن التاسع عشر، في حين يضم المسرح الفلسطيني مثل هذا التنوع من دون أن يتحقق هذا التسامح... لماذا؟ - لا يتحقق التسامح بمجرد التنوع العشوائي أو القسري، ما يحدث في فلسطين هو «محو وإنشاء» كما تقول هنيدة غانم، لكن لك أن تنظر إلى مذكرات واصف جوهرية لترى التسامح بين المسيحيين واليهود والمسلمين في القدس العثمانية، قبل صدور وعد بلفور. التسامح يعني الموضوعية والحياة الطبيعية، والعفو عند المقدرة. أعتقد أن الخطاب الكولونيالي وحكم الجنرالات في أي مكان من العالم لا ينتج عنه تسامح، الشعوب فقط تتسامح إذا عاشت حياة طبيعية من دون جدران وسيطرة وقهر ومخيمات وجيتوهات. > ركزتَ على الحب في «الرقص الوثني»، فهل تعتبره معادلاً للحرية؟ - الحرية شرط ضروري لاكتمال الحب، والحب بالمقابل أرض خصبة لخلق الحرية، الحب أداة مهمة لشفاء القلوب والأجساد، على رغم أنه يقاوم الأبارتهايد، لكن الحرية المسلوبة والتضييق يجعلان من الحب حيادياً، ويشعل غريزة البقاء، يتحول الأمر برمته إلى مجازفات بالدم والدموع والعرق من أجل البقاء، التعايش، الإفلات، ثم النجاة. تلك ظروف لا يمكن أن تُحتمل إلا بالحب، لكنه حب متعب، مثقل، لا ينمو كاملاً إلا بمساحة صحية من الحرية. > في روايتك هذه تنوع في التقنيات بين الراوي العليم والكتابة بالصوت الذكوري أو الأنثوي، وكذلك كادرات سينمائية وفلاش باك، فهل تختار ذلك أم تترك الرواية تتخذ مسارها السردي؟ - أؤمن بالضرورة الفنية للتقنيات، أهتم باستكمال الشروط الفنية، أبحث عن التقنية المناسبة لكل رواية أو مشهد أو فصل على حدة. أنشأت تحالفاً بيني وبين اللغة، وأتواطأ مع الشخصيات كثيراً، لا أغبنها حقها في السرد ولا تفلت مني فتتصرف عشوائياً، لكني أعترف أني أنتقي وأدقق، ليبدو المشهد إنسانياً، وإن كان الحدث فانتازياً. الدهشة سقفي الأعلى والجمال مقياسي الأكثر دقة. أي تقنية تخلق الجمال، وتبتكر الدهشة، أتحالف معها، فنكتب المشهد معاً. > لمَن تدين في تكوينك الأدبي وأنت دارس للغة الإنكليزية وللتمريض، ثم إدارة الموارد البشرية؟ - أنا تلميذ نفسي وآلامي، بدأت موهبتي تلح عليّ باكراً، إذ كنت أحفظ ما في قصاصات الجرائد والمجلات، وأعيد كتابته. أعدتُ صوغ دروسي العلمية والأدبية باللغة التي أحب، والتي كنت أزعم أنها أجمل. مررتُ في دربي بمن أرشدني وساعدني، أو شدّ علي يدي، أو أحبطني وتركني وحيداً وخذلني. > كيف ترى العلاقة بين الأدب والتمريض؟ - العلاقة بين المهن الطبية إجمالاً وبين الأدب علاقة جميلة مع أن مهنة التمريض يساء إليها كثيراً في الأدب والسينما العربيين، وما يزال الأمر على حاله، لكني أعرف عدداً من المبدعين ممن تفتخر المهنة بانتمائهم إليها. بعد عشرين عاماً في العمل في وحدة العناية المكثفة، أستطيع القول إني ممتلئ بها، أوجاعها وإنسانيتها، وأحتاج إلى البديل الذي لا يتاح للفلسطيني. أحتاج أن أتنفس حرية، وأن أتفرغ للإبداع، لكنه حلم يصعب تحقيقه. > في روايتك «امرأة اسمها العاصمة» تعود إلى تاريخ الأندلس وغرناطة. إذا كانت الأندلس تسمى الفردوس المفقود، فهل فلسطين هي الفردوس المولود؟ - أنا لا أبكي على الأطلال، لكن، لي شوقاً إلى نهضة أتمنى أن أحياها. الأندلس قصة حضارية أنجزناها بنجاحنا، وفشلنا فيها بفرقتنا وبملوك الطوائف، وشيوخ الكراسي. العلاقة بين فلسطين والأندلس تختصر في التجربة الأليمة التي لم نتعلم منها في الحالتين. الكارثة التي تختبئ في ثمن العروش التي تخشى على ذاتها، أو أصيبت بالسكوت والصمم، فذهبت البلاد وتشتت العباد. أعتقد أن فلسطين ستكون فردوسنا المولود عندما تكون العدالة الاجتماعية وعزة الإنسان أولاً مبدأنا الأهم، لا يمكن تحرير الوطن دون تحرير الإنسان، فلسطين تستحق عدالة وحرية وطاقات خلّاقة تحمل قداستها ومكانتها. > في هذه الرواية تنحاز إلى المرأة وترى أنها صانعة التاريخ والثقافة، فهل التاريخ أنثوي؟ - أنا دائماً أنحاز إلى المرأة. هي أمي وحبيبتي وزوجتي وابنتي وأختي وصديقتي. لسنا في مجتمع ذكوري. ذلك مصطلح مستورد لغايات التنظير أو استقطاب التمويل. أؤمن بمبدأ «الاستعداد والارتداد». هناك أوقات وظروف تسمح بتقدم المرأة لممارسة أدوار معينة وهناك ظروف توجب تنحيها ولو قليلاً وتبدل المواقع مع بقاء التأثير. ينسحب ذلك أيضاً على الرجال. أعتقد أن للمرأة أثراً مهماً في التكوين الاجتماعي والمنجز الحضاري للمجتمع العربي، والعالمي. من بدأ الزراعة أنثى، ومن عمَّر الكهف الأول وجعله صالحاً للعيش، وربما نقش النقوش عليه، أنثى. كانت المعبودة أنثى وكذلك الكاهنة. لكن الضرورة الدموية للتاريخ، وصراع الدم وحقول الموت الممتد في جغرافيا السياسة، جعل المرأة التي تعاف الدم تتنحى، لكنها كانت تمارس دورها الاجتماعي من خلف حجاب، تصنع الرجال، وتشكل العادات والتقاليد، وتحرض وتهدم وتفتن وتبني. أستطيع القول إن محرك التاريخ أنثى. قلب التاريخ أنثى. > لماذا مزجتَ في «حدائق الكريستال» تضحيات الشهداء بالبعد الصوفي؟ - أنا صوفي بالفطرة. التصوف يعني لي الحب الخالص من الرغبات والمصالح. أنا عاشق فطري للجمال أينما وجد، أستنبت اللذات من أرض الضنا، أرى المحاسن المخبأة في الوجوه المتعبة والمشرقة، أميل طرباً لقطرة ندى تنسل على خاصرة وردة، وأرقص فرحاً لبيت من الشعر ترن قافيته دلالاً بين موريتانيا والخليج. التصوف الذي أتبناه يعني الحب والفهم الجميل للعالم، التعلق بخالق وقوة واحدة للكون الممتد. الكون الذي يحمل في كل ذرة منه أثراً للخالق، ويدل عليه، ويسبح بحمده، التراث الصوفي والفلسفي أيضا رافد أساسي من روافد ثقافتي، أنتخب منه ما أطرب له، أتجنب مزالق الخطو مما يعكر غايتي في المحبة والصفاء. أطوِّرُ مفرداتي إلى ما يجوز لي أن أسميه «الصوفية الجديدة»، أو أنطلق في عوالم إضافية مولدة تستفيد من منجز العلم والفلسفة، وما أنتخب لنا من تراث ديني. لا أعتقد أني سأكون مثل جلال الدين الرومي أو ابن عربي أو الحلاج. لا أرغب أن أكون قتيلاً مثل السهروردي. أنا ابن القرون الحديثة، لي ما لها من التراث المتراكم ومن الخبرات، وعليّ ما عليها من نكبات. أصعد فوق جبالها وأرفع صوتي عالياً. > هل تشعر أن الشعر العربي يشاركك في منح القضية الفلسطينية ما تستحقه من أبعاد؟ - لم يعد الشعر العربي يهتم بالقضية الفلسطينية. هناك بالطبع قصائد جميلة لعدد من الشعراء الفلسطينيين والعرب، بعضها شعاراتي. بعضها تحريضي، وبعضها إنساني. بالنسبة لي، كل حرف قد يساهم في منح القضية إضافات، لكن الأبعاد الحقيقية للقضية لا تختصر في الشعر المرتبط بها. > كيف ترى حال شعر المقاومة بعد رحيل محمود درويش وسميح القاسم؟ - يجب أن نتفق على التسمية منذ البداية. هناك فرق كبير بين شعر المقاومة وشعر الثورة، والشعر المحرض. إذا كنت تقصد الشعر المنادي بمقاومة الاحتلال، فقد خفت صوته منذ زمن، قبل رحيل درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور. على رغم أن صوت الرواد ما زال فينا، لكن من جاء بعدهم قصّر عن دربهم، فتحولوا تقريباً إلى الشعر الوجداني المعبر عن الحالة الإنسانية الخاصة. هناك ارتباك، لكني أعتقد أن الشعر الذي يتحدث عن ضرورة الحرية وقداسة الخلاص من عبودية الاحتلال، سيعاود النهوض، بأساليب جديدة.

مشاركة :