الساعة الخامسة والعشرون*

  • 11/29/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يشاطرني كثير من القرّاء الرأي القائل بأن معظم الروايات يتلاشى حضوره من الذاكرة بمرور الأيام، وتصبح استعادة أجوائه صعبة، وربما شبه مستحيلة، وقليل منها يدمغ الذاكرة بختمه الأبدي، ومن ذلك القليل النادر، فيما أحسب، رواية "الساعة الخامسة والعشرون"، للكاتب الروماني "كونستانتان جيورجيو"؛ لأنها تراهن على فرضيتها منذ البداية، فأولا، تمتثل الرواية لأساليب الكتابة الكلاسيكية، بمشاهدها السردية الطويلة، وحواراتها المستفيضة المفعمة بالمشاعر الإنسانية الأصيلة، ثم تنامي الأحداث بالتتابع دونما ثغرة أو فراغ، وبذلك تتجنّب أية حذلقة من تلك التي يسعى إليها كثير من الكتّاب جهلا بمعايير الكتابة الأصيلة، فما أن يشرع القارئ في قراءتها حتى ينزلق إلى عالمها الافتراضي، فيتعذّر عليه مغادرته؛ لأن علاقاته بالشخصيات تأسّست على قاعدة من المشاركة والمصاحبة في كل شيء. وثانيا، تقترح الرواية قضية أخلاقية مركّبة لها صلة بالدين، والمصير، والهوية، والحرية، والاستعباد، والمنفى، فتربطها بالأيدلوجيات المتطرّفة التي تعجز عن الاعتراف بالذات البشرية؛ فتلجأ إلى إعادة إنتاج الإنسان باعتباره عدوا يهدّد سلامة الجماعة، وبذلك تبيح لنفسها الفتك به بأية وسيلة تتوفّر عليها. وثالثا، تخترق الرواية بأجمعها، وتخيّم عليها، نبرة مأساوية تتبطّن شخصياتها الأساسية، فلا تنفك تتقبّل الأذى سعيا للبراءة، فتنتهي إلى الاعتراف بأنها عاجزة في عالم جعل من الشرّ ركنا أساسيا من أركانه، فانحسر الخير، وتوارى، ولم يعد إلا ذكرى حبيسة في قلوب انهكها التعذيب والترحيل. وأخيرا، تتجلى في الرواية أصداء الملاحم الكبرى، والتراجيديات الإغريقية، والمآسي الشكسبيرية، ومجمل الأعمال التي انصبّ اهتمامها على مصير الإنسان، فكل ذلك يصلح أن يشكّل خلفية لقراءة الرواية التي تنتسب إلى السلالة الخالدة من الآداب السردية الرفيعة. تضمّنت الرواية تركيبا سرديا متداخلا، يندرج فيما يُصطلح عليه "السرد الكثيف" وفيه يقوم "تريان كوروغا" بكتابة رواية بعنوان "الساعة الخامسة والعشرون" عن مخاطر الحياة الغربية الحديثة التي اتّجهت الى قهر الإنسان باسم الحداثة، وقد انتقى شخصيات روايته من معارفة، ومن أقاربه، ثم راح يتعقّب مصيرها في ظل وقائع الحرب العالمية الثانية حيث التمييز قائم بين الناس على أساس الدين، والعرق، والأيدلوجيا، وما الساعة الخامسة والعشرون إلا تلك الساعة التي يتعذّر فيها على الإنسان النجاة بحياته من هلاك مؤكد، هي "اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للانقاذ عديمة الجدوى، بل إن قيام مسيح لن يجدي فتيلا. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي بعد الساعة الأخيرة. ساعة المجتمع الغربي". نجحت رواية "الساعة الخامسة والعشرون" في بناء عالم افتراضي مذهل في سعته وكابوسيته، فقد تحركت الشخصيات بين الأرياف والمعسكرات، وبين القرى والمدن، وبين القصور والمعتقلات، وبين الكنائس والبيوت، وترحّلت في دول كثيرة مجبرة دونما أمل في النجاة، وانقلبت مصائرها رأسا على عقب، وتقلّبت بها الأحوال بين الكرامة والإذلال، والأمل واليأس، والفقر والثراء، والصحة والمرض، والمقاومة والاستسلام، وتضاربت أحلامها مع واقعها المرير، وانتهت إلى نهايات تقشعر لها الأبدان بحقّ وحقيق، فكلما استجمعت قوة للممانعة جرى تخريب كل مقاومة جسدية أو ذهنية لها. ومع حفاظ بعضها على نبله، وبعضها على نذالته، فقد رسمت خارطة تفصيلية للمأساة البشرية في ظل الأيدلوجيات الشمولية، والحروب العبثية، والكراهيات العرقية، والتحيزات الدينية، وكلما توقّع القارئ بأن ضررا ما قد استنفد طاقته استجدّ غيره ما خطر ببال، فلا ينضب معين الأشرار من أعمال السوء. تشابكت أحداث الرواية وشخصياتها بأسلوب يذكّر بالملاحم الكبرى، وهي تنتقل من حال إلى حال نقيضة؛ إذ يتحوّل الضحايا إلى جلادين. يُعدم المحقّق "دميان" من طرف المحاكم الشيوعية التي يترأسها اليهودي "ماركو غولدنبرغ" ويُلقى مع عشرة من وجوه القرية وسط كومة من القاذورات، وينتحر "أيوردان" النازي بعد أن تجتاح القوات الروسية ألمانيا خلال الحرب، ويتعرّض الكاتب "تريان كوروغا" الى ترحيلات كثيرة بين المعتقلات، ثم يُقتل في أحد سجون الأسرى، وينال أبوه الكاهن عقابا قاسيا لأنه اتهم من طرف الشيوعيين بأنه صلّى في كنيسته لجماعة من الثوار الذين اعتبروا من الفاشيين، ثم ينجو بأعجوبة، فتحمله القوات الألمانية المنسحبة، ويتّهم من قبل الأمريكيين بأنه نازي، ثم يموت في سجن يشرفون عليه. أما "أيوهان موريتز" الشخصية التي تتمثّل من خلالها الموضوعة الأساسية للرواية، فيشهد تجارب إذلال في رومانيا، وهنغاريا، وألمانيا، فيُرحّل أسيرا بين المعتقلات طوال حقبة الحرب، كأنه طرد بريدي ضائع، ومن خلاله تتجلّى العبودية الجديدة في التاريخ. اعتاد السرد أن يقدّم مقترحات متماسكة لحبكاته، ومصير الشخصيات الأساسية فيه، لكن رواية" الساعة الخامسة والعشرون" تفاجئ القارئ بغير ما رسمه السرد له، فالمصائر لا يقرّرها الأفراد إنما الأحداث العامة التي صمّمت لتخرب هوية كل شخصية بإخضاعها لاختبارات أخلاقية ووجدانية، فالكاتب يطرح رؤية مأساوية للعالم الغربي، ويرى أن وعود الخير ستنبثق في الشرق، ولعل أشد ما يؤلم القارئ ذلك الأذى المطّرد الذي تتعرض له الشخصيات، فلا يقف عند حدّ، ولا ينتهي إلا ليدشّن لأذى جديد يفتح أفقا لضروب أخرى من الأذى. وفيما تُفتتح مشاهد الرواية بأرياف ومراع تنتهي بمعتقلات وسجون، وقد استسلمت شخصياتها لمصائر تقرّرها قوى لا ظهور لها في العالم المتخيّل للرواية، وقد أصبح المسؤولون عن تنفيذ الأحكام أدوات بيد أشخاص لا ظهور لهم فيها حيث تعاقب الشخصيات ببرود، ويحكم عليها بالسجن أو الموت دونما تردّد، فالمجتمع الشمولي لا يُعنى بهوية الفرد إنما ينظر إليه باعتباره كائنا مبهما في ولائه أو عدائه. لعل رواية "الساعة الخامسة والعشرون" أحد أكثر الأعمال السردية الباعثة على أسئلة جذرية حول المصير المأساوي للإنسان، فالبراءة تكافأ بعنف مفرط يشمل الجسد والنفس، وحسن النية يقابل بسوء مبالغ فيه، والعالم الافتراضي للرواية متاهة يتعذّر أن ينجو منها أحد. وعلى النقيض من معظم الأعمال السردية حيث يختل توزان الأحداث ثم يعاد في النهاية؛ فإن نسق الاختلال يتعمّق بمرور الزمن، ولا يعود إلى سابق عهده أبدا. لاحظوا معي، على سبيل المثال، ما يقوله المحقق "جورج دميان" في القسم الأول من الرواية، حينما جاء للتحقيق مع "أيورغو أيوردان" بعد أن تسبّب في وفاة زوجته "أيولاندا" رفسا بأقدامه ما أن بلغه نبأ هروب ابنته "سوزانا" مع حبيبها "أيوهان موريتز". فقد وجّه غضبه الأعمى إلى زوجته، وتركها تكافح الموت طوال الليل وحيدة، ثم حملها صباحا بعربة تجرّها خيوله الى المستشفى، ورماها بلامبالاة فيه لعلاج فات أوانه، وقد شُغل بخيوله أكثر بكثير مما شُغل بحال زوجته التي بلغت هاوية الموت. ولكن بماذا كان يفكر المحقّق "جورج دميان" وهو يرسل القاتل إلى السجن بعد وفاة ضحيته، ولم يكن قد عُرف بعد بميوله النازية حيث انتهى ضابطا في الجيش الألماني؟ كان يفكر بالآتي "إن القانون سيعاقب أيورغو أيوردان لأنه ضرب زوجته ضربا مميتا. إن ضرب زوجته وواقع حبه العنيف لخيوله، ذلك الحب الذي لا يشعر بمثله نحو البشر، ليسا أكبر خطيئاته، بل إنهما التأثير المباشر لعقلية معينة. إنها البربرية! هذا هو خطأ أيورغو أيوردان الوحيد! إنه ككل البرابرة، يمقت البشر، حتى يبلغ به المقت حدّ إفنائه. إن أي قانون في العالم، لا يمكن أن يعاقب المرء على بربريته، رغم أن كل الجرائم الأخرى، تنتج عنها. إن البربرية لا تعتبر غير قانونية، إلا في مناسبات محدودة جدا، ومبيّنة". والحال هذه، فكل ضروب الشرّ المذهلة التي تحيط بأحداث الرواية مبعثها كراهيات هوسيّة يصعب كبحها بالقانون، إنما استخدم القانون وسيلة لتنفيذها؛ فالقانون عرفٌ منظّم غايته معالجة ظواهر الأفعال، لكنه أعجز عن الغوص في مرجعياتها ودوافعها، ولهذا لم يفلح في قطع دابر الأعمال المشينة التي على العكس من ذلك، تكيّف القانون، لدواع دينية أو عرقية أو أيدلوجية، من أجل التنكيل بالآخرين، وقد شكل ذلك الظاهرة الأكثر حضورا في "الساعة الخامسة والعشرون"، وسوف تُترك للقارئ حرية ايقاع اللوم على من يريد، فهل "أيوردان" كائن شرير بإطلاق؟ أم أن الأيدلوجية النازية التي تغذّاها هي التي أحالته شريرا؟ ثم هل يجوز أن تكون زوجته، أو ابنته، موضوع انتقام لشخص تفوح منه روائح الشرّ؟ وهل ينبغي أن يعاقب "موريتز" لأنه حلم بالرحيل إلى أميركا، والعودة منها بمال يمكّنه من شراء أرض يزرعها، والزواج من "سوزانا"؟ أم أن الجميع ينبغي أن يقبلوا بالأذى الذي مصدره التعصب والكراهية؟ تركت رواية "الساعة الخامسة والعشرون" أثرا بالغا في نفسي، وبلغت قسوة كثير من فقراتها حدا أجبرني على التوقّف عن القراءة، ومواصلتها بعد أن أتغلب على حال الانفعال التي كانت تغمرني، لم تنبع القسوة من صرامة فعل عدواني يمارسه عدو مهووس، إنما من استسلام الأفراد لقواعد متوحشة في التعامل أنشأتها نظم شمولية ثلمت السوية الطبيعية عند الإنسان، فأيوهان موريتز، وتريان كوروغا، والأب كوروغا، وسوزانا، وغيرهم اقتلعوا من انتماءاتهم الطبيعية ورموا في أتون إذلال جماعي لا يقرّ بالتمايزات الفردية، ولا يراعيها. وهذا نسق مطرد شمل معظم شخصيات الرواية التي تشكّلت علاقاتها الأولية في ظروف السلم، وتعرضت لمهانات كبيرة في ظروف الحرب. حينما انتهيت من قراءتي الأخيرة للرواية سيطر عليّ ذهول عجيب ما لبث أن أمسى حزنا مبهما لافكاك منه، فقد عشت تجربة القراءة وكأنها وقائع حقيقية مررت بها أنا أو بعض معارفي، وأرجّح أن الظرف التاريخي للعراق خلال حقب الاستبداد، والاحتلال، والفوضى الأهلية، أسهم في توجيه قراءتي، فقد كنت على معرفة بشخصيات مرّتْ بتجارب مماثلة أو شبه مماثلة لما عرضته الرواية، ففي النظم الشمولية يلقى الأفراد في متاهة غامضة، كما حدث في بلاد الرافدين، وتجربة الاحتلال الأميركي، والحرب الأهلية التي تأدّت عنها، وفّرت ظروفا مثالية لأن يمارس الضحايا أدوار القتلة، كما حدث في رواية "الساعة الخامسة والعشرون". ومعروف مبلغ الأذى الذي تمارسه الضحية إن تأتّى لها أن تقوم بدور القاتل؛ فالتعطّش إلى النقمة يجتثّ في طريقه أية رحمة، والغالب أن ذلك استبطن صلتي بهذه الرواية طوال أكثر من ثلاثة عقود، فقد كنت شاهدا على تبادل الأدوار بين القتلة والضحايا في تكرار لايكاد ينتهي. *مقدمة خاصة بطبعة جديدة للرواية تصدر قريبا في تونس

مشاركة :