«الساعة الخامسة والعشرون» .. رواية الجرح الإنساني

  • 8/15/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

محمد إسماعيل زاهر الساعة الخامسة والعشرون اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى، بل إن قيام المسيح نفسه لن يجدي فتيلا. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي الساعة ما بعد الساعة الأخيرة، ساعة المجتمع الغربي، إنها الساعة الراهنة، الساعة الثابتة المضبوطة، يقول البطل تريان كوروغا في الرواية المدهشة والخلابة للروماني قسطنطين جيورجيو المعنونة ب الساعة الخامسة والعشرون، معلقا على الروح الغربية، الثقافة والحضارة، الفكر والسلوك، الرؤى والمعتقدات، قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بقليل. عندما تحاول الكتابة عن هذه الرواية لا تعرف من أين تبدأ على وجه الدقة، من أحداث متلاحقة ومتسارعة، تتنقل بك بين مختلف البلدان الأوروبية، هل تبدأ من رومانيا حيث تنطلق الوقائع، أم المجر، حيث يؤلمك السرد بتناول البيع المادي والمعنوي للبشر، أم من ألمانيا حيث يكتمل البناء الفكري للرواية في حوارات حول العرق والأمة والإنسان المتفوق الذي يجب وضعه في معارض للتباهي به أمام الآخرين الأقل تفوقا وتحضرا، أم من فرنسا بعد الحرب ومن ثم ألمانيا الغربية بعد التقسيم حيث نازية الغرب الحر الذي يضع المهاجرين الفارين من الروس في معسكرات للعمل ولاختبار الولاء وللتربية العقائدية لمواجهة الحرب المقبلة مع الشيوعية. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، سؤال ضروري لمن يقدم أي قراءة لالساعة الخامسة والعشرون يحاول من خلالها النفاذ إلى روح هذه الرواية، وهو ضروري أيضاً للقارئ الذي تظل الرواية تطارد ذاكرته بعد الانتهاء منها، فلا يتذكر حدث أو مقولة أو شخصية حتى تتجمع أطراف الرواية في ذاكرته وتسرد نفسها من جديد في مخيلته، هل نبدأ من قصة إيوهان موريتز؟، الذي يقضي 13 عاماً في 38 سجناً معتقلاً من قبل الأنظمة الأوروبية كافة، والذي يذكرنا ببريء أو أبله ديستويفسكي، فهو لا يصدق ما يتعرض له، ولا يصدق قسوة البشر، ويرفض قتل أي إنسان حتى عندما يرتدي البزة العسكرية الألمانية، وينخرط في الجيش النازي، هو يرفض القتل والتوحش، ولا يفهم ما يحدث له، في مسيرة تحولاته، فهو مرة روماني أرثوذكسي، ومرة روماني يهودي، ومرة ثالثة، مجري مسيحي، ومرة رابعة ألماني جرماني من عرق متفوق، وفي كل مكان يتم الاحتفاء به أو اضطهاده بناء على هذه الهويات، تلك الهويات القاتلة بتعبير أمين معلوف، ولكن جيورجيو يصنع شبكة من هويات معقدة ومتشابكة، وكانه يحفر معرفيا وثقافيا وأنثربولوجيا وراء الدوافع التي تتلبس البشر لتجعلهم يحاكمون غيرهم على الهوية. بعد الخروج من سجن الحلفاء نهائيا، لا يجد موريتز أمامه إلا معسكرات العمل الأمريكية في ألمانيا الغربية، هو سجن أيضا ولكن لا يوجد في العالم، أو في الحضارة الغربية تحديداً إلا السجن، لا فارق بين القارة العجوز بفلسفاتها وأزماتها الروحية وبين الفكر الجديد المتمثل في الصعود الروسي المتوحش والأمريكي الذي يستعبد الإنسان ويدفعه للابتسام، ولذا تنتهي عذابات موريتز، أو رحلته أو ملحمته منذ أقُصي من بيته بتهمة أنه يهودي، وهي التهمة التي وجهها له مسؤول قسم قريته الطامع في زوجته، تنتهي مأساته الأقرب إلى الروح الإغريقية، وتحولاته المستمدة من العوالم النفسية للأدب الروسي، لا الكافكاوي، ينتهي كل هذا بموريتز يسجل في معسكرات العمل الأمريكية بعد أن يقف أمام الضابط المسؤول والذي يلتقط له صورة ويلح على موريتز المنكسر لكي يبتسم، هي حضارة الشو والقمع المقنن وصعود الآلة. لا فارق بين الصراع القديم في أوروبا ولا بين الصراع الجديد بين رأسمالية وشيوعية، وهو ما تؤكده نورا ويست، زوجة تريان كوروغا الهاربة من هويتها اليهودية، فالشيوعية تشعل النار في الشرق، مما يجعل البشر يفرون إلى الحدود مع الغرب، يعتبرون تلك الحدود بوابة للأمل والحرية، ولا يدركون أنها مجرد باب يخفي وراءه النار. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، من تريان كوروغا الروائي، البطل المثقف الموازي للبريء موريتز، فهذا الأخير يعيش متفرجا على مسار حياته، الذات هنا عينها كآخر حتى لو عانت وتألمت، أما كوروغا فيتوحد مع موضوعه، يرفض ما يمر به، يعتقله الألمان والروس والأمريكيون، أيضاً على الهوية، مرة يُسجن في العالم الحر لأنه روماني من الأمم المهزومة في الحرب، ومرة يُطارد في العالم النازي لأنه تزوج بيهودية، لا مفر أمام المثقف، ولكنه يفهم ويقرر آلا يتفرج وينخرط في الأحداث، وبعد انتحار أمه زوجة القس بعد التعرض للاغتصاب على أيدي الجنود الروس، ووفاة والده العجوز في معتقل الحلفاء، لا يبقى أمامه من حل سوى محاولة الهرب، والتعرض لرصاص حراس السجن، وهو لا يهرب أملاً في النجاة، ولكنه يعرف أنه ميت لا محالة، كان يريد الخلاص بالانسحاب من الحياة، ولكنه يرفض الانتحار، وقبل انتحاره بفترة يُضرب عن الطعام، ويكتب رسائل لا يفصح السرد بوضوح لمن يوجهها، يوقعها ب الشاهد، يحلل فيها الروح الغربية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي أسهمت في انحطاطها. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، هل من خلال العالمين المتوازيين اللذين يقيمهما جيورجيو بين البريء والمثقف، من المصائر المتقاطعة بين شخصياتها، من لقاء كوروغا وموريتز في السجن، من لقاء موريتز بزوجته بعد 13 عاماً ليجد ولدين تركهما وهما صغيران، وليجد ولد ثالث نتج عن اغتصاب الروس لزوجته وهي تفر من النازيين إلى الشيوعيين، وهنا يصفح موريتز ويعتبره ابنه، هل تقُرأ من لقاء موريتز في النهاية بنورا ويست في معسكر العمل الأمريكي، وعندما يعرف أنه زوجة تريان كوروغا يعطيها نظارته، ذلك الشيء الوحيد الذي كان يرى من خلاله العالم المتوحش، ومنحه هدية لموريتز قبل إقدامه على الانتحار. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، هل من تقاطعها مع حزمة من الروايات، فمرة يحدثك عن الغثيان، ويحيطك بمشهد كامل ينفذ من خلاله إلى أحاسيسك فينقل الشعور نفسه، الذي حلله سارتر فكريا وأدبيا فيما بعد، ومرة عندما يقول أحد الضباط الأمريكيين لتريان كوروغا: إن اسمك مسجل في العالم كله، ليذكرك بجورج أورويل، ومرات في حديث عن صعود عصر الآلة ليحيلك إلى عالم جديد شجاع لألدوس هكسلي. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، من أفكارها التي لا تخلو صفحة واحدة منها، من نبوئيتها أم تبشيرها بأفول الغرب، أم دقها جرس الإنذار بحدوث تغيرات جوهرية في روح الإنسان بحيث لا تنفع أي محاولة للإنقاذ حتى مع قيامة المسيح، وفق التصور المسيحي، مستندة إلى تراث مسيحي وغربي طويل يتحدث عن خراب العالم قبل نهايته، أم من مشاهدها المؤثرة التي تمسك بعينيك، وتبقى مؤثرة في وجدانك وعالقة في ذاكرتك، هي تغنيك عن مشاهدة الأفلام الوثائقية والدرامية عن الحرب العالمية الثانية، وهنا قوة الكلمة، وسحر السرد أننا نتأثر لتألم بطل روائي أكثر مما نتألم لما نشاهده يوميا من قتل وخراب منقول عبر مختلف الفضائيات، وهي الملاحظة الذكية التي تحدث عنها باستفاضة إمبرتو إيكو. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، من متاهتها، ولكنها ليست كمتاهة بورخيس، هي متاهة بسيطة، سرد كلاسيكي، فالأحداث مهما تشابكت فهي تمر ببساطة من أمام عينيك، لا غرائبية أو عوالم سحرية أو مغارات سردية تحترس وأنت تتجول بداخلها، وحتى الحديث عن الآلات والروبوتات وإن كان يتقاطع مع هكسلي، فإنه يستمد مفرداته من زمان ومكان الروائي، والذي كان يدين الحرب والتي حولت الروح إلى آلة، لا تشعر أو تحس، وحولت الإنسان إلى شيء وسط القطيع أو المجموع الذي يتم التلاعب به من خلال شتى آليات الضبط والعقاب من الرأسمالية والشيوعية، من اليمين واليسار، هو لا يبشر بمستقبل تسوده الآلات، وهي تهويمات انتشرت في الكتابة العربية عن الرواية، حيث يبدو الأفق أمام الغرب مسدودا إذا استمرت الروح بعيدة عن إنسانيتها. من أين تُقرأ هذه الرواية؟، من مشهديتها المترعة، فجيورجيو يخترق بصرك في عشرات المشاهد في الرواية، والملاحظ أن أقلها تأثيرا تلك المتعلقة بالتعذيب والاغتصاب، هو ينأى بنفسه عن الفجاجة، أو يود القول إن هذا عارض وطارئ على الروح الإنسانية التي يجب أن نلحقها بشتى الوسائل، وأكثر مشاهده بقاء تلك التي تجرح الروح بخفاء، بسرية، وبطء وربما دون أن ندري، تلك المشاهد التي ترصد التباينات الظاهرية الكاذبة بين عالم مستبد: نازي ثم شيوعي، وعالم حر متحضر: أوروبي ثم أمريكي، هو يلعب على كشف كذب هذه التباينات في اكثر من مشهد. من أين تقرأ هذه الرواية؟، من جمل وكلمات لا يمكنك إلا تدوينها جانباً للاستمتاع بها بين الحين والآخر: ترصد في كلماته المراوحة الوجودية والقلقة لم يعد أمام الإنسان سوى اختيار واحد من سجنين. تستمع إلى البطل وحيدا في مواجهة العالم: إن بينك وبين بيتك أمم العالم. تصغي إلى سخرية مريرة وتعجب من روح القطيع العالم كله يشعر بما تشعر به ولكنه لا يريد أن يعترف. يخبرك بمحنة الفرد في مواجهة المجموع: إن الإنسان يخسر وجوده عندما يصبح تعطشه للحرية والعدالة رمزاً لجنونه. بعد أن تغلق الكتاب /الرواية/ الملحمة، 500 صفحة، يعاودك السؤال من أين يمكن أن نبدأ في قراءته؟، لقد فعل جيورجيو في الساعة الخامسة والعشرين كل ما يمكن عمله في الرواية على المستوى الفني والفكري، السردي والحكائي، الفكري والإمتاعي.

مشاركة :