إن القيادة السياسية الإيرانية تعي جيدًا أنها حققت طفرات كبيرة على مستوى التوسع الخارجي وأثبتت مقدرتها السياسية أمام الولايات المتحدة والغربيين كلاعب إقليمي لا يجب تخطي مطالبه وطموحاته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ترى طهران انه ينبغي على الدول الكبرى التسليم به تجاه دورها في المنطقة وذلك الدور الذي تحاول طهران ان تفرضه ترى وجوب ان يكون مُكّرسًا بقناعات نابعة من طبيعة هويتها وخصوصية تفكير عنصرها الفارسي وحضوره وليس ما يجب أن تحدده التوجهات الأمريكية والغربية وترسمه لها، وهي ترى اليوم ان وضعها على مستوى الفضاء الدولي العام هو أكثر الفرص للثبات من ذي قبل، فكما تقدم أن الروس والصينيين يرون في الدور الإيراني بمنطقة الشرق الأوسط دورًا متقدمًا يصب في فتح أبوابها لحضورهم القادم، ومع ذلك تبقى القيادة السياسية الإيرانية اليوم تعيش بين مفترقين وذلك طبعًا إذا ما صدقت إدارة ترامب في توجهاتها بملاحقة برنامج إيران النووي، وعلى ذلك يبقى السؤال الأصعب هل ستتراجع إيران وتقبل بإعادة التفاوض حول الاتفاق- وهو ما نراه الأقوى في خيارات طهران- أم أنها ستُصر على عدم التنازل عن ذلك الاتفاق وهو ما سيفرض عليها تغييرا في قواعد اللعبة على الأرض في ظل تبنيه؟ وهنا تحديدًا سيبرز دور إيران في الساحة السورية اكثر ومنها ستبدأ بتغيير قواعد المواجهة في تلك الساحة وطبعًا لن تكون منطقة الخليج ببعيدة عن ارهاصات ذلك الخيار، فالإيرانيون وبعد إعلان إسرائيل صراحةً لموقفها من انها لن تسمح بتخطي الخطوط الحُمر المتوافق عليها بشكل غير رسمي والتي من خلالها ضُبطت معادلة توازن القوة وقواعد الاشتباك في الساحة السورية وفي المنطقة عامة طوال السنوات الماضية، ومن ذلك المستجد تدفع إسرائيل اليوم بكل قوة للتأكيد على ان يدها هي الطولى في متغيرات المنطقة وقد لوحت بذلك من خلال ضرب قاعدة أل تي فور العسكرية السورية، ما نتج عنه مقتل اكثر من تسعة خبراء إيرانيين في تلك القاعدة وبالأمس القريب تكرر ضرب الإيرانيين الموجودين في القواعد العسكرية السورية في حلب على يد الإسرائيليين وهو ما ادى ايضًا إلى مقتل خبراء إيرانيين، وهو ما يعني ان إسرائيل ستستغل توجه إدارة ترامب المستجدة فتدفع هذه المرة بشكل جاد لتصفية التواجد الإيراني على حدودها وكما أكدت للجانب الروسي مرارًا على ذلك بأنها لن تسمح بأي تواجد لقواعد عسكرية أو نفوذ إيراني يتحرك على تخوم إسرائيل، ومن خلال تلك العمليتين العسكريتين يبدو ان إسرائيل قد نجحت في تحييد الدور الروسي وصواريخه الـ400 اس المضادة للجو والتي هي لن تُخطئ في حماية السماء السورية وما تحتها لو هي ارادت ذلك، وهو ما يعني ان إسرائيل استطاعت فرز الخندق السوري والإيراني عن الخندق العسكري الروسي داخل الارض السورية، وإيران اليوم وفي ظل كل تلك المتغيرات والتحولات في عامة اجواء المنطقة وفي ظل التراجع الأمريكي عن الاتفاق النووي فإنها قد تسعى لتغيير قواعد الاشتباك العسكري داخل سوريا أولا، ومع ان هذا السيناريو تدرك إيران جيدًا خطورة الدفع به رغم استفزازات إسرائيل المتواصلة لها فهو يعني المواجهة المُباشرة مع إسرائيل ومن ثم الولايات المتحدة من خلفها وهو ما تخشاه إيران وتتجنبه، فالإيرانيون عمدوا طوال السنوات الماضية إلى استخدام عامل الحروب بالوكالة لكنهم اليوم يرصدون جيدًا ان حلفاءهم على الأرض من داخل الجبهة السورية والعراقية يرون انه حان الوقت لتدفع إيران نحو مواجهة مباشرة مع إسرائيل وخصوصًا بعد اهانتهم في قاعدة الـ تي4 ومؤخرًا قاعدة حلب العسكرية، كما ان هؤلاء الحُلفاء من الواضح انهم اليوم يريدون من إيران ان تكون هذه المرة اكثر جدية في النزول بشكل مباشر لمواجهة التحولات الحاصلة في المنطقة والتي تسعى إسرائيل لاقتناصها، وفي تقديري ان القيادة السياسية الإيرانية اليوم تدرك ان وضع الداخل بات ضاغطًا عليها بالتراجع وأن وضع حلفائها بالمنطقة صار اكثر إلحاحا لإثبات مدى جديتها في صراعات الشرق الأوسط، وهنا تحديدًا في تقديري ستلعب نتائج الانتخابات العراقية القادمة دورًا مفصليًا في تحديد خيارات إيران القادمة وفرصها وخصوصًا مع تزايد الضغوط على حلفائها من الأجنحة المناصرة لها في الداخل العربي. ان الحقيقة الاخطر والتي نعتقد أن الإيرانيين يرصدونها ويلمسونها جيدًا تكمن في حقيقة دور الولايات المتحدة بكل إداراتها المُتعاقبة وصولاً إلى إدارة ترامب، بأن هذه الادارات ليس لديها مشروع واضح لمُعالجة استقرار منطقة الشرق العربي بل على العكس من ذلك وإن كل متتبع للتاريخ الأمريكي وكبار مُنّظريه من أمثال هنري كيسنجر وغيره يؤكدون ان استراتيجية الولايات المتحدة المؤكدة والثابتة في التعاطي مع المنطقة العربية هي مبنية على اساس جعل هذه المنطقة منطقة ازمات وعدم استقرار وهو ما يجعل الإيرانيين في وضع واضح ومُريح بان امنهم القومي لن يُمس عسكريًا بشكل مباشر من قبل الولايات المتحدة وفي احلك الظروف من عملية التنافس المثارة اعلاميًا، فهل ستُغير الولايات المتحدة من نمط تعاطيها هذه المرة؟ ومن ثم هل يدفع ذلك بالإيرانيين إلى التخلي عن اسلوبهم في تبني دور المواجه بالوكالة؟ والذي انتهجوه طوال السنوات الماضية، وعليه حزم أمرهم بالمواجهة المباشرة وهو ما تدفع ادارة نتنياهو جاهدة إلى تحقيقه في ظل ادارة ترامب، أم ان البازار الإيراني سيميل إلى طبيعته في تبني خيار عدم المواجهة المباشرة وسيميل إلى عامل المناورة ويقبل بالجلوس على طاولة المفاوضات حتى تنجلي مرحلة ترامب وتوجهات ادارته؟
مشاركة :