ليس الهجوم الذي شنته إسرائيل على إيران سوى تعبير عن رغبة متبادلة لدى الجانبين في تفادي مواجهة شاملة بينهما. تحدثت الدولة العبريّة عن تحقيق الهجوم أهدافه، فيما تحدثت طهران عن إفشالها الهجوم وعن أضرار جانبيّة خلفها من دون أن تشير إلى ضرورة الردّ. تبدو المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل مؤجلة، في الوقت الحاضر، لأسباب مرتبطة برغبة الطرفين المعنيين بذلك. يعود ذلك إلى ظروف تتحكّم بكلّ منهما. تفضل «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران خوض حروبها عبر أدواتها في المنطقة، أكان ذلك عبر الأدوات الموجودة في العراق أو في سورية أو في لبنان... أو في اليمن. في المقابل، تفضل إسرائيل الانتهاء من حربي غزّة ولبنان قبل الانصراف إلى الموضوع الإيراني الشائك، وهو موضوع لا تستطيع مقاربته من دون تنسيق مع الولايات المتحدة. إذا كان من درس تعلمته إسرائيل من «طوفان الأقصى»، فإن هذا الدرس يتعلّق بالصفقات والتسويات والرهانات التي تستطيع التوصل إليها أو عقدها مع الإسلام السياسي بأي شكل من أشكاله. في النهاية، راهن بنيامين نتنياهو طويلاً على «حماس». اعتبرها ضمانة لاستمرار الانقسام الفلسطيني وضرب المشروع الوطني الفلسطيني الهادف إلى قيام دولة مستقلّة تضمّ الضفة الغربيّة وغزّة. خدم حصار غزّة «حماس» التي أقامت في القطاع «إمارة إسلاميّة» منذ منتصف العام 2007. كانت إسرائيل تؤمّن وصول الأموال إلى «حماس» عبر مطار بن غوريون شهراً بشهر. كان المهمّ تكريس الانقسام الفلسطيني، وهو انقسام خدم بقاء محمود عبّاس (أبو مازن) على رأس السلطة الوطنية الفلسطينية عن طريق تفادي أي انتخابات رئاسيّة أو اشتراعيّة. جاء «طوفان الأقصى» نتيجة لرهان «بيبي» نتنياهو على «حماس». ما حصل يوم السابع من أكتوبر 2023، غيّر المنطقة كلّها، بما في ذلك إسرائيل التي اكتشفت أنّ ليس في استطاعتها التعايش لا مع «حماس» ولا مع «حزب الله» وأن عليها في نهاية المطاف ضرب ما بات يسميه المسؤولون الإسرائيليون «رأس الأفعى» في طهران. عملياً، ضربت إسرائيل «حماس». قضت على غزّة وعلى «الإمارة الإسلاميّة» واغتالت يحيى السنوار، الذي كان وراء «طوفان الأقصى» الذي أخذ إسرائيل كلّها على حين غرّة وأدخلها في أزمة وجودية. تكمن أهمّية «طوفان الأقصى» في أنّ الهجوم لم يؤد إلى قتل 1200 إسرائيلي ومواطنين من دول أخرى في خلال ساعتين فحسب، بل كان أيضا ضربة لقوة الردع الإسرائيليّة. الرجاء قبول الموافقة على ملف تعريف الارتباط لم تكن الوحشية، التي لا يمكن تبريرها بأي مقياس من المقاييس، التي لجأت إليها إسرائيل في غزة سوى دليل على رغبة في استعادة قوة الردع التي أفقدها إياها «طوفان الأقصى». لجأت إسرائيل إلى الوحشية كي تستعيد هيبتها. ما فعلته إسرائيل في غزّة تفعله حالياً في لبنان حيث دمار كبير في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة. خلقت الدولة العبريّة قنبلة موقوته ستنفجر عاجلاً أم آجلاً في ضوء تهجيرها لمليون ونصف المليون لبناني، معظمهم من الشيعة، من قراهم وبلداتهم. أكثر من ذلك، إنّها تحول الضاحية الجنوبيّة وما يحيط بها إلى مكان غير صالح للعيش. لم تكتف بالقضاء على عدد كبير من قيادات «حزب الله» فحسب، بل حولت الحزب إلى جسم من دون رأس. صار الحزب في حاجة إلى ضباط من «الحرس الثوري» الإيراني لمتابعة الحرب مع إسرائيل وإبقاء الوضع اللبناني معلّقاً في ظلّ فراغ سياسي تصرّ إيران على إستمراره. لم يعد من همّ لبناني لإيران غير استخدام ما بقي من «حزب الله» لاستمرار الإمساك بالبلد بصفة كونه ورقة لدى «الجمهوريّة الإسلاميّة». في وقت تستمرّ الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية على أرض لبنان، يبدو واضحاً أنّ الدولة العبريّة تعمل على الإعداد للمرحلة المقبلة. لم يعد سرّاً أنّها في صدد تغيير الوضع في الجنوب السوري والمناطق التي تعتبر أنّها ذات طابع إستراتيجي، مثل قمة جبل الشيخ التي تشرف على العمقين السوري واللبناني. ما المرحلة المقبلة إسرائيلياً؟ ليس العنوان الأساسي لتلك المرحلة الهجوم الذي شنّه سلاح الجو الإسرائيلي على مواقع إيرانية مع تركيز خاص على مصانع الصواريخ والمسيرات. سيكون العنوان الأساسي البرنامج النووي الإيراني. هذا البرنامج الذي صار هاجساً إسرائيلياً بعد «طوفان الأقصى» وفتح إيران لجبهة جنوب لبنان «إسناداً لغزّة». ما بعد «طوفان الأقصى» سقوط لرهان «بيبي» على «حماس» وعلى «حزب الله» وعلى قواعد الاشتباك التي توصل إليها مع الإسلام السياسي. الأهم من ذلك كلّه أن لما فعلته «حماس» وما فعله «حزب الله» ترجمة وحيدة. ستكون «الجمهوريّة الإسلاميّة» مستعدة لاستخدام سلاحها النووي في حال حصولها عليه، تماماً مثلما استخدمت «حماس» صواريخها ومسيراتها لضرب عمق إسرائيل، تماماً مثلما فعل «حزب الله» الذي تكفلت صواريخه بضرب منزل نتنياهو وفي نزوح نحو مئة ألف إسرائيلي من مستوطنات الجليل. تحتاج المرحلة الإسرائيلية المقبلة إلى تفاهم إسرائيلي – أميركي في العمق. بكلام أوضح، ليس في استطاعة إسرائيل وحدها وقف البرنامج النووي الإيراني. الحاجة أكثر من أي وقت إلى مشاركة أميركيّة في مواجهة إيران بشكل مباشر. من هذا المنطلق، يمكن فهم مسايرة الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية لإدارة جو بايدن، التي أرادت أن تتفادى الضربة الأخيرة التي وجهت إلى إيران المنشآت النفطية والبرنامج النووي. من هذا المنطلق، أيضاً، يمكن فهم انتظار إسرائيل لنتائج الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة قبل بدء البحث الجدي في كيفية التعاطي مع احتمال حصول إيران على القنبلة النووية. سيكون دونالد ترامب أكثر من مستعد لتعاون مشترك في العمق في التصدي للقنبلة الإيرانية. ستكون إدارة على رأسها كمالا هاريس، منفتحة على فكرة أنّه من غير المسموح لإيران بامتلاك السلاح النووي. في هذا السياق، تبدو المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران مؤجلة لا أكثر، مؤجلة في انتظار الإدارة الأميركيّة الجديدة.
مشاركة :