أظن ـ وليست كل ظنوني آثمة كما تعلمون، أن لبنان يكاد يكون - إن لم يكن هو - أغرب دولة موجودة على الأرض منذ أن ابتكرت المجتمعات فكرة تقسيم هذا الكوكب البائس إلى دول وشعوب.هي ربما الدولة الوحيدة التي يفوق مواطنوها الذين يحملون جنسيات دول أخرى ويعيشون خارجها عدد من يحملون جنسيتها ويعيشون فيها.وحين يتاح لمخلوق بشري أن يتابع الإعلام اللبناني فإنه لوهلة يعتقد أن هذا الشعب هو أكثر شعوب الأرض حرية وانفتاحا، وقد يأسى هذا المخلوق على نفسه وعلى أنه لم يكن لبنانيا يتمتع بحرية اختيار لم تتح لغيره من أمم وشعوب وقبائل هذه المعمورة.ثم إن هؤلاء الأشقاء اللبنانيين لا ينفكون يذكروننا نحن شعب الجزيرة العربية بأننا أمة متخلفة ـ حسب مقاييسهم ـ لا تعرف التعايش ولا الديمقراطية، وأننا محرومون من نعمة الانتخابات واختيار من يمثلنا. ولا يتركون فرصة تمر دون التلميح إلى الجمال والصحراء على أنها عيوب ونقائص فينا نحن الشعوب التي لا تعرف صناديق الاقتراع.تقابل اللبناني فتشعر أنه «فاهم» ومتعلم، ويعرف عن العالم أكثر مما يعرف العالم عن نفسه. وشعب كهذا يفترض منطقيا أنه أقل شعوب الأرض فسادا وتخلفا، وأكثرها نزاهة، وهذا يحدث في أي مكان تكون الشعوب فيه هي الرقيب والمحاسب.لكن كون الشيء منطقيا فإنه لا يعني بالضرورة أنه مرشح للحدوث أكثر من الأشياء غير المنطقية. فهذا اللبناني الذي يعيب القبلية ويسخر من شيخ القبيلة ويعتبره رمزا للتخلف والرجعية، ينتمي لقبيلة اسمها الحزب أو الطائفة. وزعيم هذا الحزب «الديمقراطي» لا يترك مكانه إلا بتدخل مباشر من ملك الموت. ثم لا يتركه لاختيار الناس بعد موته، بل يتركه لذريته حقا من حقوقهم التي يجب أن ينالوها من الميراث. وهذا أمر مقبول في العرف القبلي، لكنه مضحك حين يكون في أعراف من يسخرون من القبيلة والصحراء.وهذا اللبناني الذي يبدو للآخرين أنه فرد في مجتمع يقدس حرية الرأي ويعيشها إلى حد تحسده عليه حتى الطيور، يعيش في واحد من أكثر بلدان الأرض التي دفع فيها أشخاص حياتهم ثمنا لآرائهم.وهذا اللبناني المثقف الواعي المتحدث اللبق الذي يمكنه تسويق أي شيء لم يستطع إقناع سياسي بلاده بأن تنظيف الشوارع من الزبالة أكثر فائدة وأهمية لحياة اللبنانيين من موتهم في سوريا واليمن دفاعا عن طهران.وهذا اللبناني المتسامح المنفتح على الآخر المتعايش مع كل الأديان يحتفل بنتائج الانتخابات ويهتف منتشيا بأن «بيروت صارت شيعية»، ويعتبر ذلك إنجازا وفخرا. ثم يصدق ساسته وهم يرددون بأن الانتخابات انتشلت لبنان من وحل الطائفية.وعلى أي حال ..من أسوأ ما قدمه النموذج اللبناني للعالم الباحث عن الحرية هو أنه شوه مفهوم الحرية نفسها، الحرية ليست في أن تتخلى عن ثيابك أو تردد كلمات بذيئة وإيحاءات جنسية في برنامج تلفزيوني. حين لا تجرؤ على الحديث عن فساد «السيد» ولا زعيم الحزب فلا تزايد على الآخرين في أمر الحريات، لأنك لست حرا، أنت فقط منحرف أخلاقي يوهم نفسه بأن هذه هي الحرية.@agrni
مشاركة :