إنتاج الكتب.. صناعة ظهرت في العصر العباسي

  • 5/9/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

شاع حين ظهور التلفاز أن رفوف الكتب ستواجه مصيراً قاتماً، لكنها احتفظت بمكانتها وكان اختراع الإنترنت هو التحدي الكبير الثاني للكتب، ولكنها بقيت مع ذلك تفتن الشباب والكبار على حد سواء، وصمدت وظلت مصدراً للقراءة أمام تقلبات تقنيات التسلية الحديثة، وذلك بفضل المقالات الأكاديمية والكتب السحرية والمغامرات المثيرة والقصص الرومانسية والسير الذاتية مازالت الكتب كما كانت قبل ألف سنة تأسر الناس وتلهمهم وتجذبهم إلى عالمها الذاتي الصامت، وليس هناك مكان يزدحم فيه الناس أكثر من ممرات المكتبات وخزائن الكتب.شرع المسلمون منذ القرن الثامن بإنتاج كميات هائلة من الكتب لأنهم طوروا صناعة الورق التي تعلموها من الصين، فغدت الكتب والمخطوطات والمقالات تغطي حقول العلوم الإسلامية والتكنولوجيا والفنون، كما انتشرت حركة الترجمة على نحو مطرد ولقيت تشجيعاً واسعاً. روي أن الخليفة المأمون كان يدفع مكافأة المترجم وزن الكتاب الذي يترجمه إلى العربية ذهباً ما أدى إلى وجود أكداس من الكتب جذبت انتباه الأجيال اللاحقة وحازت احترامهم من مسلمين وغير مسلمين وافتتحت في عهد العباسيين مئات المكتبات العامة والخاصة، الأمر الذي أمد القراء بآلاف الكتب.ويجدر بالذكر أن المسلمين قبل أن تأتيهم الكتب بأنواع العلوم جميعها استغرقوا في القرن السابع بالقرآن كتاب الإسلام الأول الذي أوحي به إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على شكل تلاوات عرفت بالآيات والسور.فسارع العديد من الصحابة إلى حفظها عن ظهر قلب، وهرع الكتاب والنساخ في تسجيلها على مختلف المواد التي تصلح للكتابة كعصب النخيل والقماش والعظام والحجارة وحفظت نسخة كاملة من الكتاب عند حفظة ابنة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورتبت الآيات والسور بأمر من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بتوقيف من السماء. تعددت نسخ القرآن عند الصحابة، إلا أن أغلبها كان يحتوي شروحاً وملاحظات يكتبها مالكوها.جمعت هذه النسخ كلها في نسخة خالية من التعليقات ثم دققت كذلك بالمقارنة مع نسخة حفصة وذلك ما أمر به عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين الذي وحد فيها أساليب الكتابة والقراءة على قاعدة مضبوطة الأمر الذي جعلها أيسر انتشاراً، ومازالت هذه النسخة العثمانية التي مضى عليها ألف وأربعمائة سنة محفوظة في المكتبات الكبرى في العالم، أما نسخ القرآن اليوم فهي مطابقة لتلك النسخة وأضيف إليها الشكل والنقط والحركات لتسهيل التلاوة.إن الارتباط القوي بالكتاب لدى المسلمين يعني أنهم كانوا يحبون اقتناء الكتب وإنشاء المكتبات، فوجدت مكتبات خاصة وأخرى عامة، إضافة إلى شبكة ضخمة من مكتبات المساجد في المدن الكبرى، فضلاً عن المجموعات الضخمة الخاصة التي اجتذبت العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، وكانت مخطوطاتها وكتبها بحجم كتب اليوم، ورقها فاخر يكتب على وجهيه وأغلفتها الجلدية تحافظ على متانتها.وكانت مجموعات الكتب العامة واسعة الانتشار فلم يقم مسجد إلا وكان في الوقت نفسه معهد تعليم يحتوي على مجموعة من الكتب، وفي بغداد مثلاً قبل أن يدمرها المغول عام 1258 وجدت ست وثلاثون مكتبة وأكثر من مئة كتبي بعضهم ناشرون يعتمدون على مؤسسات للنسخ، ووجدت في القاهرة وحلب والمدن الكبرى في إيران وآسيا الوسطى وحوض البحر المتوسط مكتبات مماثلة سميت مكتبة المسجد «دار الكتب» أو «بيت الكتب» أو «كتبخانة» بحيث أصبح كل منها مركز إشعاع ونشاط فكري وفي هذه المكتبات كان العلماء والكتاب يملون نتائج دراساتهم على جماعات من المستمعين الشباب وعلماء في علوم الدين أو غيرها من العلوم لتنسخ المحاضرات على أوراق وتحول إلى كتب وتظل تنشر بالطريقة ذاتها حتى عند اعتمادها، وكان النقاش مفتوحاً لكل إنسان.في المسجد الأموي الكبير في حلب كانت مكتبة من أكبر المكتبات وأقدمها تسمى «السيفية» وتضم عشرة آلاف مجلد وقيل إن الأمير سيف الدولة هو الذي قدمها ولكن مسجد الزيتونة الجامعي في تونس كان أكثر غنى إذ احتوى عشرات الآلاف من الكتب وقيل إن غالبية الحكام الحفصيين أو بني حفص الذين حكموا تونس ما بين عامي 1220 و1574 كانوا يتنافسون على المهابة والأبهة المقترنة بتقوية المكتبات وصيانتها فزاد عدد الكتب فيها ذات يوم عن مئة ألف مجلد.لم تكن المكتبات العامة هي الضخمة وحدها بل كان للأفراد مكتبات لا تقل عنها ضخامة. ذكر المؤرخ إدوارد جيبون حكاية عن طبيب مسلم رفض دعوة سلطان بخارى لزيارته لأنه يحتاج إلى 400 جمل لحمل كتبه التي لم يكن يغادر مكانه من غيرها.كما ألف الجاحظ من علماء القرن الثامن نحو مئتي كتاب منها «كتاب الحيوان» في سبعة مجلدات جمع فيه أشياء شتى عن الحيوان ضمت ملاحظات ومشاهدات فذكر مثلاً عادات النمل الاجتماعية وطبيعة التواصل بين الحيوانات وأثر الغذاء والبيئة في المخلوقات ومن مؤلفاته الأخرى كتب البيان والتبيين والبخلاء وقيل إنه مات في مكتبته عام 868 م عن عمر ناهز الثانية والتسعين حين سقطت عليه كتبه.أحب هؤلاء الناس الكتب كثيراً وكان من تقاليدهم أن يهدوا مجموعات منها إلى مكتبات المساجد لينتفع بها الناس، وأهدى العلماء الرحالة إليها كذلك ما معهم من كتب تعبيراً عن امتنانهم وشكرهم للمساجد التي كانت تقدم لهم السكن والطعام والقرطاسية بالمجان.كان للمكتبات شأن جليل وقد وصف المقدسي الجغرافي مجمعات القرن العاشر في شيراز بإيران فقال إنها مبان محاطة بالحدائق والبحيرات والقنوات المائية تعلوها قباب تتألف من طابق سفلي وآخر علوي فيهما 360 غرفة في كل قسم بيانات مفهرسة كتالوجات موضوعة على رفوف الغرف مفروشة بالسجاد.المكتبات قبل ألف عام كانت كنظائرها اليوم منظمة تنظيماً عالياً ففي العامة منها والخاصة على حد سواء نظام تصنيف للكتب ودليل خبير يساعد القراء لتمنح المشرفين عليها سلطة لمراقبة أنواع المصادر وكميتها.تقول المصادر كان في مكتبة الأزهر في القاهرة عام 1050 م أكثر من مئة وعشرين ألف مخطوطة مثبتة في دليل من ستين مجلداً وقيل أيضاً إن السجلات التي دونت فيها الكتب بمكتبة الحكم في الأندلس كانت من أربعة وأربعين مجلداً.

مشاركة :