امرأة تنافس على منصب شيخ مدينة تونس: جدل سياسي أم أيديولوجي

  • 5/10/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تونس - انتهت حروب وصراعات التسابق نحو السيطرة على الحكم المحلي في تونس بين حزبي الحكم نداء تونس وحركة النهضة بهزيمة تكبّدها كلا الطرفين رفقة مختلف التيارات السياسية المعارضة في أول انتخابات محلية في البلاد منذ ثورة يناير 2011. لكن لم ينته الجدل حول الانتخابات، حيث تحولت وجهة النقاش العام حول من سيكون رئيسا لبلدية تونس العاصمة أو ما يعرف بـ”شيخ المدينة”. يتنافس على الظفر بهذا المنصب الحساس والمتجذّر في تاريخ البلاد وخاصة لدى سكان العاصمة، وتحديدا المدينة العتيقة، مرشحة حركة النهضة الإسلامية سعاد عبدالرحيم ومرشح نداء تونس الليبرالي كمال إيدير وسط تجاذبات سياسية كبرى باعتبار أن القانون الانتخابي المحلي لا يمنح بصفة آلية المتحصّل على أكثر عدد من الأصوات في الدائرة الانتخابية رئاسة المجلس البلدي. فتحت الثورة في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدا فيسبوك بالنسبة لمجتمع مثل المجتمع التونسي، الباب أمام إطلاعه على ملفات وقضايا ومجالات كثيرة كانت غائبة عن ثقافته رغم أنها من صميم واقعه. اليوم مثلا، انتقل الحديث من الانتخابات البلدية إلى الجدل حول رئيس بلدية العاصمة، ومن سيتولى هذا المنصب ذا الصلاحيات الواسعة؟ قلة من النخبة السياسية ومن سكان مدينة تونس، كانت تهتم بهذا المنصب، الذي يتم اختيار من سيتولاه وفق ضوابط سياسية وأعراف اجتماعية محددة منذ سنوات طويلة جدا. اليوم، الجميع يدلي بدلوه في هذه القضية بين مؤيد لمرشحة النهضة سعادة عبدالرحيم لتكون أول “شيخ مدينة” وبين مرشح نداء تونس كمال إيدير. وترتسم ملامح صراع بين الحزبين قد يؤثر على التوافق السياسي المستمر منذ في 2014. ورئيس بلدية تونس العاصمة سيكون منتخبا لأول مرة في تاريخ البلاد بعد أن كان في العهد العثماني أو حتى بعد الاستقلال خلال نظامي الرئيسين الأسبقين الراحل الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي المنصب البلدي الوحيد الذي يُستثنى من الانتخاب وتعيّنه السلطة التنفيذية. منصب مثير للجدل تقف وراء حدّة التنافس والتجاذبات على منصب شيخ المدينة عدة عوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية. فلشيخ المدينة حظوة كبيرة دخلت في موروث وعادات سكان المدينة العتيقة منذ عقود، إذ يرجع وفق المؤرخين هذا المنصب العريق إلى العهد الحفصي ولم يكن متاحا أمام أي شخص أن ينال هذا المنصب حيث كان التداول عليه حصرا على أبناء العائلات المرموقة أصيلة المدينة العتيقة أو ما يُعرف لدى التونسيين بـ”البلاد العربي”. ومنذ عام 1858 كان شيخ المدينة يُعين من قبل الباي وتدعّمت مكانته حتى عقب الاستقلال بعد إقرار دستور الجمهورية في يوليو 1957 زمن الراحل الحبيب بورقيبة الذي أبقى في خطوة فاجأت الكثيرين- باعتبار أنه معروف برفض كل دواليب حكم العثمانيين- على نفس التقاليد التونسية الصرفة أوّلا بالمحافظة على نفس الصلاحيات لشيخ المدينة وثانيا منحه هوامش سياسية أكبر بإشراكه في المجالس الوزارية أو حتى بتسميته في ما بعد في تجارب كثيرة كوزير أول بالحكومة. أمّا في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي فلم يبق تقريبا من منصب شيخ المدينة سوى الاسم باعتبار أنه أصبح مجرّد منفّذ لأوامر وإملاءات الحزب الحاكم أو بمثابة شيخ ديكوري بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها. وبالعودة إلى التسابق الحالي بين النهضة ونداء تونس الفائزين بأكثر المقاعد في دائرة بلدية تونس على الظفر بمنصب شيخ مدينة تونس، فإنه من الضروري التعريج على مسألتين هامّتين، أولاهما تتعلّق بكل ماهو سياسي باعتبار أن شيخ المدينة سيُمنح وفق مجلة الجماعات المحلية الجديدة صلاحيات واسعة تُضاهي في محتوياتها مهام المحافظ، بل إن البعض يذهب إلى تسميتها بالوزارة المصغرة. وتتعلق المسألة الثانية والتي لا تقل أهمية خصوصا من الناحية المجتمعية بمخاوف سكان المدينة العتيقة وبعض التشكيلات السياسية التقدمية والحداثية من إمكانية سطوة النهضة، ذات التوجه الإسلامي، على جزء راسخ في الموروث التونسي الأصيل والمتجذّر بالمدينة العتيقة إن تمكنت من الفوز بمنصب شيخ المدينة. قبل الغوص في مختلف الرهانات السياسية أو الانتظارات من انتخاب شيخ المدينة، فإنه حري التذكير بأن حركة النهضة التي حققّت فوزا في الاستحقاق المحلي بمدينة مليونية أخرى وهي محافظة صفاقس، عاصمة الجنوب، تدرك جيّدا أن ترؤس بلدية العاصمة سيضاعف حظوظها لحشد أكثر عدد من ممكن من الأنصار استعدادا للانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2019. حول الجدل بشأن منصب شيخ مدينة تونس، قالت سعاد عبدالرحيم مرشحة حركة النهضة لـ”العرب”، “إنها فخورة جدّا بأن تكون أول ‘شيخ مدينة’ منتخب في تاريخ البلاد”، مؤكّدة أنه إن تم التوافق على منحها هذا المنصب فإن تونس ستنتصر فعلا لمبدأ مناصرة المرأة ووجوب تشريكها في مراكز القرار السياسي. ورفضت عبدالرحيم التعليق على تصريحات قيادات نداء تونس التي أكّدت في أكثر من مرة عقب إصدار هيئة الانتخابات للنتائج الأولية أن مرشحها كمال إيدير سيكون رئيسا لبلدية تونس. وأكّدت أن التوافق بين رؤساء القوائم سيحسم هذه المسألة، مشدّدة على أن آلية الانتخاب ستكون ربما حاضرة وسيشارك فيها على دورتين رؤساء القوائم الفائزين لانتخاب رئيس المجلس البلدي لمدنية تونس العاصمة. وتؤكّد كواليس الأحزاب السياسية عدم وجود أي توافق حول من سيترأس المجلس البلدي بالعاصمة مما يفتح الباب أمام إمكانية كبيرة للالتجاء إلى آلية الانتخاب على دورتين يشارك خلالها في التصويت رؤساء القائمات فقط. واعتبر القيادي بحزب نداء تونس محسن حسن في تصريح لـ”العرب” أن حظوظ حزبه وافرة للحصول على منصب شيخ المدنية، مؤكدا أن مرشح النداء كمال إيدير سيكون على الأرجح هو الرئيس القادم لبلدية تونس العاصمة. وشدّد محسن حسن على أن نداء تونس لن تكون له أي تحالفات مع حركة النهضة في ما يتعلق ببلدية تونس العاصمة على عكس بقية الدوائر الأخرى التي سيُنظر فيها حالة بحالة. تخوفات من النهضة في قلب المعركة والتنافس على الظفر بمنصب شيخ المدينة تُراهن حركة النهضة على إحراج الأحزاب الحداثية واليسارية بتأكيد قياداتها أن عدم التوافق على مرشحتها سعاد عبدالحريم سيكون بمثابة الطعنة لكل الشعارات المرفوعة بخصوص مناصرة قضايا المرأة التونسية وتناقض مفضوح لخطابات الحداثيين الداعية إلى مساواة المرأة مع الرجل في المراكز القيادية الحساسة. في المقابل، تعتبر الأحزاب التقدمية وفي مقدّمتها نداء تونس أن ترؤس حزب إسلامي لبلدية تونس العاصمة يُعد خطرا على النمط المجتمعي لتونس، حيث استهجن المكلف بالاتصال في نداء تونس فؤاد بوسلامة تولّي امرأة منصب شيخ المدينة، متسائلا “شيخ مدينة تونس امرأة؟ تصوروا إشراف امرأة ليلة 27 من رمضان في الجامع؟”. حركة تعيد تفصيل "جبة" شيخ المدينة سيتم انتخاب شيخ مدينة تونس بعد انتخاب الـ60 عضوا الذين سيتحصلون على مقاعد في بلدية تونس. وأوضح رفيق الحلواني أن الـ60 عضوا سيجتمعون وسيصوتون على رؤساء القائمات الفائزة في الانتخابات البلدية من أجل اختيار شيخ المدينة. على الرّغم من وجود 350 بلدية في كامل أنحاء البلاد، فإن بلدية تونس تبقى الأهم بالنسبة لمعظم الأحزاب السياسية التي رشحت فيها أسماء ذات ثقل كبير، والترشيح الأبرز لحركة النهضة، ذات التوجهات الإسلامية، التي اختارت امرأة (سعاد عبدالرحيم) لتكون “شيخ المدينة”، في موقف جدلي سياسيا كما اجتماعيا. عملا بالتقاليد لم تطرح من قبل فكرة أن تتولى امرأة هذا المنصب منذ أن أحدث سنة 1858، رغم أن المرأة التونسية تبوأت أعلى المراتب في الدولة؛ وربما لو رشحت النهضة عبدالفاتح مرور لكان أثار جدلا أقل، بحكم انتمائه الاجتماعي لأسرة من المدينة العتيقة، وتركز الحديث فقط على جانب واحد من القضية. فمن جهة يصب مقترح الإسلاميين في صالح الدولة الحديثة والمساواة، ومن جهة أخرى يثير قلقا حول مآلات نيلهم لهذا المنصب وما يعنيه ذلك من إدارة لملفات حساسة وخطيرة بدءا بقضية السيطرة على جامع الزيتونة مرورا بمشاريع ممولة من جمعيات تركية لترميم آثار العثمانيين في المدينة العتيقة وليس انتهاء بالمشاريع الثقافية والدينية. ومن تقاليد شيخ المدينة في تونس أنه يكون المشرف الأول على إعداد كل المناسبات والأعياد الدينية بتونس العاصمة وتحديدا بجامع الزيتونة. وأثار تصريح بوسلامة جدلا كبيرا في مواقع التواصل الاجتماعي التي استهجنت أن يصدر مثل هذا الحديث عن سياسي ليبرالي. ودخلت أحزاب المعارضة على الخط لترشح بدورها رؤساء قوائمها للمنصب المذكور. وقال لطفي بن عيسى، القيادي بالجبهة الشعبية، والفائز بمقعد في بلدية تونس لـ”العرب” إنه سيترشح لخوض الانتخابات الداخلية بالمجلس البلدي لنيل منصب شيخ المدينة. وشدد بن عيسى على أن الجبهة الشعبية لا تقبل البتة أن يكون شيخ المدينة من حزب إسلامي، مشيرا إلى أن ظفر النهضة بالمنصب المذكور سيكون مهددّا لنمط عيش سكان مدينة العاصمة. وأكّد أنه في ظل تصارع النهضة والنداء على منصب رئيس بلدية العاصمة ستكون هناك حظوظ كبرى لمرشحي المعارضة. من جهته، وجّه حزب التيار الديمقراطي والذي حقق قفزة نوعية في الانتخابات المحلية الأخيرة بوأته لكي يكون ثالث قوة سياسية في البلاد بوصلته إلى منصب شيخ المدينة، حيث أكد أمينه العام غازي الشواشي لـ”العرب” أن التيار سيقتنص فرصة التصادم بين حزبي الائتلاف الحاكم وأنه قد يرشح رئيس قائمته ببلدية تونس العاصمة لمنصب شيخ المدينة. ويثير فوز حركة النهضة بغالبية المقاعد في بلدية تونس العاصمة مخاوف سكان المدنية العتيقة بالعاصمة ويعيد إلى أذهانهم العديد من المعارك التي خاضوها ضد الإسلاميين إبان ثورة يناير 2011 في علاقة بالعديد من الملفات المجمتعية الحارقة. وتكمن أبرز الملفات التي تؤرق سكان المدينة العتيقة حتما في محاولة حركة النهضة مجدّدا السيطرة على أهم المعالم الدينية التونسية جامع الزيتونة، خصوصا أنه سبق لها أن وضّفته في معارك سياسية قبل انتخابات 2014 بتنصيبها عنوة وبطريقة مخالفة للقانون حسين العبيدي إماما عليه رغم تميزه بخطابات سياسية لا دينية وصلت حدّ التكفير والاستهزاء من منافسي الحركة الإسلامية. وكانت مدينة تونس العتيقة، وفق جل الملاحظين، من أهم المدن العصية على الإسلاميين لما يتميز به سكانها من تشبّث بقيم وموروث ميزاها طيلة عقود، ولعل رفض سكانها في العام الماضي لما أثير من جدل حول عزم بلدية تونس خلال ترؤسها من قبل عمر منصور المحسوب على النهضة التفريط في أهم المعالم الثقافية بالمدينة “المعهد الرشيدي” لفائدة مركز ثقافي تركي، خير دليل على ذلك. منصب شيخ المدينة يعيد أيضا الجدل من جديد حول نقطة أخرى خلافية في تونس، تتعلّق بمصير أحد أشهر المواخير القانونية، حيث كثر السؤال لدى سكان المدينة العتيقة ولدى معظم التونسيين منذ فوز النهضة بأغلب المقاعد في العاصمة عن مصير ماخور سيدي عبدالله قش إن فازت مرشحة الإسلاميين بمنصب شيخ المدينة. تأتي هذه التخوفات، عقب تشبث الإسلاميين منذ أول أيام الثورة بوجوب إغلاق كل المواخير، ليعيدوا طرح الملف تحت قبة البرلمان في عام 2016 بتقديمهم مشروع قانون إلى لجنة الحقوق والحريات يرمي إلى تجريم تجارة البغاء القانونية. وتبرر التشكيلات السياسية التقدمية رفضها ترؤس مرشحة النهضة لبلدية تونس العاصمة بلعب أوراق أخرى منها إعادة الجدل حول المدارس القرآنية غير القانونية المنتشرة بلا رادع والتي حذّر منها معظم المختصين، خصوصا أن المناهج التعليمية بها غير بيداغوجية وقد تؤدي بالنهاية إلى إنتاج أجيال متطرفة. الأحزاب الحداثية لا تخوض حربا بريئة لا تخوض الأحزاب المنافسة للنهضة حربا بريئة بل تضع نصب عيونها هوس الفوز بمنصب شيخ المدينة لعدة اعتبارات يبقى من أهمها إدراكها مسبقا أن تونس العاصمة هي “روح البلاد وقلبها النابض” لما تتميز به من احتواء لأكبر المعالم السياسية والاقتصادية والثقافية والسياسية والرياضية. وتعي كل الأحزاب المتصارعة على بلدية تونس جيّدا أن السيطرة على مدينة وازنة كالعاصمة سينجر عنها حتما حصد غنائم سياسية هامة ستسبق الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية في 2019. هنا، على سبيل المثال لا الحصر فإن جل الأحزاب والقوائم المترشّحة في بلدية تونس العاصمة قدّمت وعودا بالجملة لأهم معاقل ورموز ومعالم المدينة خاصة منها المعنية بالثقافة (مسارح، دور سينما، دور شباب، دور ثقافة) أو الرياضية من ذلك مثلا تقديم وعود بإعادة تهيئة البنية التحتية لأكبر ناديين رياضيين وهما الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي اللذين يستحوذان على أحباء تقدر أعدادهم بالملايين وذلك في إطار خطة انتخابية صرفة سابقة لأوانها. بخلاف الصورة الوردية التي يحاول تقديمها كل حزب، حذّر مراقبون من أن تحاول كل التشكيلات السياسية النسج على منوال نظام زين العابدين بن علي الذي لم يسيطر في عهده على مفاصل الدولة فحسب، بل سطا على كل معالم تونس المدينة في جميع المجالات ووظفها لخدمة أجنداته.

مشاركة :