تفرض التحولات والتغيرات الجيوسياسية نفسها على منطقة حوض شرق البحر المتوسط، التي تتسم بقدر كبير من الأهمية، وهو ما يجعل قضية استغلال موارد المنطقة من الطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي، أكثر تعقيدا وتشابكا؛ كونها تتضمن احتياطيات استراتيجية ضخمة من الطاقة، الأمر الذي جعل قضية استغلال هذه الموارد مثارا للخلاف في وقت يفترض فيه أن تحكمها اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية. لذا ظلت إسرائيل اللاعب الأكثر انخراطا في صراعات وخلافات مع دول الجوار الجغرافي في حوض المتوسط بشأن الغاز، مثل لبنان وقبرص. وبإلقاء الضوء على «أزمة الغاز» بين لبنان وإسرائيل، نجد أنها قد تصاعدت بشكل كبير في أعقاب فشل كل المساعي للتوصل الى اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، نظرًا إلى عدم وجود اتفاق حول معايير التقسيم. وكانت البداية، حينما أعلن لبنان رفضه اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وقبرص، والتي تمت في أكتوبر 2010. بسبب تعدي إسرائيل على ما يقرب من 860 كم مربع من المنطقة الاقتصادية الخاصة به؛ ما دفع لبنان إلى تقديم احتجاج لدى الأمم المتحدة، لفقدانه مساحة هائلة من الغاز، نتيجة اعتماد إسرائيل على التنقيب العمودي، وليس الأفقي، وهو ما هيأ الدخول بعمق في الأراضي اللبنانية. ووفقا لمراقبين، فإن النزاع يتمحور حول منطقة على شكل مثلث تبلغ مساحتها نحو 860 كم مربع، وتقع على امتداد ثلاثة من امتيازات الطاقة البحرية في لبنان. وقد تم تقسيم هذه المساحة إلى عشر مناطق أو بلوكات، ويمثل البلوك «9» أحد تلك المناطق، وقد قُدم عرض من ائتلاف يضم ثلاث شركات عالمية هي (توتال الفرنسية، إيني الإيطالية، نوفاتك الروسية)، للتنقيب والاستخراج من البلوكين 4 و9 في أول جولة تراخيص للنفط والغاز يطرحها لبنان. وبلغت حصة توتال 40%، مقابل 40% لإيني، و20% لنوفاتك، ومن المفترض أن تبدأ عمليات التنقيب في عام 2019. وقد أثار هذا الأمر عاصفة من الحقد والغضب في «تل أبيب»، عبر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي «أفيجدور ليبرمان»، واصفا منح لبنان فرصة للتنقيب في «البلوك رقم 9» «بالأمر الاستفزازي»، ودعا ائتلاف الشركات العالمية المسؤولة عن التنقيب إلى عدم تقديم عروض للدولة اللبنانية، مدعيًا أن البلوك رقم «9» هو ملك لإسرائيل وليس للبنان. ويقع البلوك رقم «9» بمحاذاة منطقة متنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، مساحتها 860 كم مربع، ولا تشملها أعمال التنقيب؛ الأمر الذي أوضحته شركة «توتال»، مؤكدة أن أعمال التنقيب المرتقبة ستجرى على بعد أكثر من 25 كيلومترًا من منطقة النزاع، في منطقة تشكل أقل من 8% من مساحة المنطقة محل النزاع. وكان وزير الطاقة الإسرائيلي، «يوفال شتاينتز»، قد صرح في التاسع من فبراير 2018، عقب إعلان لبنان إسناد تراخيص الاستكشاف للشركات الثلاث، أن «الحل الدبلوماسي للنزاع أفضل من التهديدات»، قائلا: «أوضحنا أمرين بطريقة مباشرة.. لا تستفزونا وتقوموا بعمليات استكشاف داخل أو حتى بالقرب من خط التماس المتنازع عليه»، في تلميح لإمكانية عرقلة التنقيب. وعلى إثر ذلك، صرح وزير الخارجية اللبناني، «جبران باسيل»، بأنّه أصبح بإمكان إسرائيل سرقة النفط اللبناني في البحر المتوسط، وخاصة بعد اكتشاف حقل إسرائيلي جديد يبعد نحو أربعة كيلومترات عن الحدود اللبنانية، واصفا الأمر بأنه «خطير للغاية»، مؤكدا أن خيار الدولة اللبنانية الوحيد هو الجهود الدبلوماسية لتنبيه إسرائيل ألا تخطئ وتعتدي على لبنان، ولا على مصالح الدولة الاقتصادية في البحر، مستبعدا تطور الأمور إلى نزاع عسكري، قائلا: إن «لبنان لم يخطئ حين قام بنشاطات بترولية ضمن حدوده». في الوقت الذي أعلن فيه مجلس الدفاع الأعلى في لبنان يوم 7 فبراير، أنه يمنح «الغطاء السياسي للقوى العسكرية، لمواجهة أي اعتداء إسرائيلي على الحدود في البر والبحر». وفي حقيقة الأمر، فإن صراع «البحر» هذا، يتصل بصراع آخر على «البر»، حيث تسعى إسرائيل جاهدة لإقامة جدار عازل على «الخط الأزرق»، وهو خط الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، والذي وضعته الأمم المتحدة عام 2000؛ بهدف التحقق من الانسحاب. ويتحفظ لبنان على 13 نقطة على طول الخط الأزرق، ويعتبر أن إقامة إسرائيل للجدار العازل عند هذه النقاط هو خرق للقرار الدولي رقم «1701»، الذي اتخذ لإنهاء الحرب، التي دارت بين لبنان وإسرائيل عام 2006. والذي أنهى الأعمال الحربية بين إسرائيل وحزب الله، ودعا إلى احترام كامل للخط الأزرق. ومن جانبها، تحركت لبنان بشكل رسمي، حيث وجهت وزارة الخارجية اللبنانية، رسالة إلى الأمم المتحدة أكدت فيها: معارضتها بشدة للادعاءات الإسرائيلية بعدم أحقية لبنان في البلوك رقم 9 اللبناني، تحت مزاعم أنه يقع تحت السيادة والولاية القضائية الإسرائيلية، مؤكدة أنه يقع كليا في المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. فيما عقد، الرئيس اللبناني «ميشال عون»، ورئيس مجلس النواب «نبيه بري»، ورئيس الوزراء «سعد الحريري»، اجتماعا ناقشوا فيه التهديدات الإسرائيلية ضد لبنان وسيادته واستقلاله، والتي تمثلت بعزم إسرائيل بناء جدار اسمنتي قبالة الحدود الجنوبية وفي نقاط على «الخط الأزرق» يتحفظ عليها لبنان، والادعاءات باعتزام إسرائيل التنقيب عن الغاز في البلوك «9». ومن ثمّ، قرروا «الاستمرار في التحرك على مختلف المستويات الإقليمية والدولية للمحافظة على حقوق لبنان الاقتصادية في المياه البحرية الخاضعة للولاية القضائية اللبنانية». وبالتزامن مع التحركات اللبنانية، جاءت زيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي «ديفيد ساترفيلد» لبيروت حاملاً ملفات كثيرة في جعبته، وخاصة فيما يتعلق بالحدود البرية والبحرية مع فلسطين المحتلة، حيث زار المنطقة الحدودية، وطلب الفصل بين المسارين البري والبحري قائلاً إن «الحدود البرية قضيتها محلولة، عن طريق عدم بناء إسرائيل الجدار الحدودي في النقاط المتنازع عليها، وهو «ما طالبنا به»، ومن ثمّ، النزاع على 12 نقطة محسوم، إما لمصلحتكم وإما لمصلحة إسرائيل. وتبقى نقطة واحدة، قرب رأس الناقورة، يمكن حلها». أما بالنسبة الى المسار البحري فقد طرح «ساترفيلد» العودة إلى «خط فريدريرك هوف». والذي يسمح بموجبه للبنان باستخراج النفط أو الغاز من هذه المناطق، وهو الخط المعروف باسم الموفد الأمريكي، الذي رُسم عام 2012 ويمنح لبنان 60% وإسرائيل 40% من الغاز. ونُقل عن «ساترفيلد» قوله: «إن رفض خط «هوف» يعني أن أي شركة لن تشارك في استخراج الغاز والنفط في البلوكات اللبنانية، ورفض لبنان يعني عدم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة لحل الخلاف». واعتبرت المصادر اللبنانية الرسمية أن «ساترفيلد» كان يتصرف على أساس أن على لبنان أن يأخذ بشيء من الادعاءات الإسرائيلية بحصة من الـ860 كيلومترا؛ ولذلك كان الرد اللبناني الامتناع عن البحث بحصة إسرائيل منعا لإدخاله في دوامة توزيع المنطقة الاقتصادية الخالصة بينه وبين إسرائيل. وكان مصدر وزاري، قد رافق وساطة السفير «هوف»، وما انتهت إليه قبل 6 سنوات، كشف أنه حين قام بوساطته لم يرسم خطا نهائيا للحدود البحرية، بل اعتبر الخط الذي رسمه مؤقتا، وليس نهائيا، مثلما رسم الخط الأزرق في البر على أنه مؤقت لتحديد خطوط الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، مؤكدا أن «هوف» اقترح في حينه بالأرقام أن يحصل لبنان على 500 كيلومتر مربع (ولم يتم تحديد نسبة لكل «دولة») وأن تترك الـ360 كيلومترا مربعا الباقية للتفاوض اللاحق بين لبنان وإسرائيل، بحيث يتمكن لبنان من البدء في استثمار الثروة النفطية والغازية في الجزء الذي يعود له من دون أن تستثمر إسرائيل الثروة الدفينة في الـ360 كيلومترا مربعا، في انتظار التفاوض عليها». ووفقا لمحللين، فإن الوساطة الأمريكية لحل أزمة ترسيم منطقة النزاع النفطي أو البلوك «9»، لا يمكن وصفها إلا بأنها عبارة عن «رسالة تهديد إسرائيلية إلى لبنان» أكثر منها وساطة حقيقية، الأمر الذي جعل المبعوث الأمريكي ينهي زيارته للبنان من دون أن ينجح في حلحلة الأمور، أو حدوث انفراجة إيجابية، على وقع التهديدات الإسرائيلية بشن حرب جديدة على لبنان، ومواصلة بناء الجدار الاسمنتي على الحدود. فيما استبعدوا أن تشن إسرائيل حربا على لبنان، مشيرين إلى أن إقدامها على هذا يعد «مغامرة عسكرية لن تكون في مصلحتها»، وخصوصا أنّ لديها منشآت بحرية واسعة تقدّر بمليارات الدولارات شمال فلسطين المحتلة، والتي ستكون في مرمى نيران الجيش اللبناني والمقاومة، فيما لبنان لا يملك حتى اليوم أي منشآت، مؤكدين أن التهديدات الإسرائيلية ليست موجهة الى لبنان بقدر ما هي موجهة بالدرجة الأولى إلى الشركات كنوع من الضغط المعنوي لتحجم عن البدء بأعمال الحفر والتنقيب. إجمالاً، تتزايد احتمالات نشوب حرب «نفط وغاز» جديدة في المنطقة تنطلق شرارتها بين لبنان والكيان الإسرائيلي، ولا أحد يعلم إلى أين تصل؛ لأن الثروة النفطية والغازية في منطقة البحر المتوسط تشترك فيها عدة دول منها قبرص وتركيا واليونان ومصر، وهذا ما سيجعل الأمور تتعقد أكثر فأكثر في حال لم يتم استثمار هذه الحقول، والتي تحتوي على أكثر من 340 تريليون قدم مكعب من الغاز، خلال 40 عاما، الزمن الذي توقعه الخبراء لنفاد هذه الثروة.
مشاركة :