التقاعد ظاهرة اجتماعية وحضارية، موجودة في الوقت الحاضر لدى كل المجتمعات المتقدمة والنامية، أفرزها بمفهومها العصري، المجتمع الصناعي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما واكب ذلك من تشكل علاقات التعامل، وفقا لمفاهيم حديثة ارتقت بمستوى حقوق تقاعدية إلى ما هو عليه اليوم. ففي المجتمعات القديمة لم يكن هناك تقاعد بالمعنى المتعارف عليه اليوم، وكان الفرد يعمل حتى يتوقف من تلقاء نفسه؛ لأن الأعمال كانت يسيرة، وكان العاملون لا يتقاعدون إلا إذا شعروا بأن قدرتهم لم تعد تساعدهم على العمل، أما اليوم فقد تمت صياغة ملامح عملية التقاعد من خلال أطر تشريعية توضح متى، ولماذا، ومن يملك خيار التقاعد. وقد اتفقت معظم قوانين العمل في مختلف الدول على السن المحددة للتقاعد، وهو بين الـ60 و67، باعتبار أن إنتاجية الفرد تتناقص عند هذه السن. ويحقق التقاعد فوائد للمتقاعدين والدولة ويعتبر عند العديد منهم بداية حياة جديدة، وفرصة لاكتشاف الذات، وتقييم إمكاناتها، فتتكشف فيها مهارات، ويمكن الإفادة منها في شكل محاضرات واستشارات وغيرها. كما أنه يتيح للدولة فرصة لتوظيف دماء جديدة من الأفراد الأصغر سنًّا الذين يقدمون العديد من الأفكار المبتكرة حول كيفية تحسين مسار العمل، ووضع نُهُج جديدة لحلّ المشاكل وزيادة الكفاءة. والملاحظ في الوقت الراهن أن المجتمع الدولي أخذ يسعى حثيثا لخلق مجتمع يتسع لكل الأجيال بعد أن أصبح التقاعد علما يدرس في الجامعات، وموضوعا يناقش على كل المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، وبذلت المساعي من أجل دمج المتقاعد في عملية التنمية، عزز من ذلك التقدم الكبير في الخدمات الصحية، التي رفعت معدل عمر الإنسان في كثير من الدول ما بين 75-79، فضلا عن أن هذا العصر هو عصر العمل العقلي والآلي، وليس العمل العضلي الذي يحتاج إلى القوة البدنية. وبالنظر إلى أنظمة المجتمعات المتقدمة، نجد أنها سعت لاستثمار خبرات المتقاعدين وتجاربهم، فعادة ما تتحول وظيفة المتقاعد إلى وظيفة استشارية، فلا يعني أن يحال الفرد إلى التقاعد أن يحال كل ما يمتلكه من خبرات وإنجازات إلى التقاعد أيضا؛ لأن العمل يحتاج لتلك الخبرات المتراكمة كمرجعية للأجيال القادمة. وتأتي اليابان في مقدمة تلك الدول التي تعتبر المتقاعدين «ثروة قومية»، حيث عكست اهتمامها بتلك الشريحة ببرنامج اجتماعي اقتصادي يعتمد على إضافتهم إلى المعادلة التنموية الشاملة في مواقع متنوعة، غالبًا ذات صلة بتلك التي قضوا فيها فترة عملهم أو غيرها، وذلك بإعادة تعيينهم كمستشارين في مؤسسات الحكومة والمجتمع المدني والجمعيات الأهلية، وخاصة بعد أن تمكنوا من المساعدة في تنمية المؤسسات اليابانية التي تتميز بالكثير من المعجزات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية، ومن ثمّ، ارتفع طلب التوظيف على من تجاوز سن التقاعد، علما بأن الحد الأدنى للتقاعد هناك هو 65 عاما. وفي أمريكا (67)، وقد ابتكرت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل (مايكروسوفت) للمتقاعدين، عدة برامج؛ لمساعدتهم على الاستمرارية في العطاء. وكانت صحيفة «الجارديان» البريطانية قد ذكرت أن الحكومة البريطانية تشجع استخدام المتقاعدين كمستشارين نظرًا إلى المهارات والخبرات التي يستطيعون تقديمها، وخاصة في عهد حكومة «مارجريت تاتشر» طوال ثمانينيات القرن الماضي، وطول عهد حكومة «توني بلير» من عام 1997، وخلال العقد الأول من الألفية الجديدة، باعتبار أن هذه الفئة تختزن الكثير من الخبرات والطاقات والنضج النفسي والعملي، ولا شك أن مجلس اللوردات في بريطانيا يلعب هذا الدور للحكومة، فمعظم أعضائه من المتقاعدين المعينين على أساس التفوق والجدارة المهنية، في مجالات كالقانون والسياسة والاقتصاد وقضايا التنمية وممن أدوا لبلدهم خدمة جليلة. ولعل من أبرز برامج استثمار قدرات المتقاعدين عالميًا «هيئة الخبراء» الألمانية، و«جامعة المتقاعدين» اليابانية، والتي أُنشئت عام 1969، و«جمعية المتقاعدين الأمريكية»، التي أُنشئت أيضًا عام 1969. واللافت أن العالم اليوم قد تجاوز مقولات قديمة اعتبرت التقدم بالعمر عائقا أمام تحقيق الأهداف، فالقيمة الحقيقية لعمر الإنسان هي معرفة كيفية استثماره والاستفادة منه، حيث أصبح التقاعد أداة استثمارية؛ ولدى بعض الدول العربية العديد من التجارب الناجحة، نذكر منها «جمعية الحكمة للمتقاعدين» في البحرين التي تم تأسيسها عام 1989 الأولى في التأسيس عربيًا، وهي رائدة في العمل الاجتماعي التخصصي، وتهدف إلى جمع المتقاعدين من كافة القطاعات العام والاهلي والعسكري وترعى شؤونهم والمحافظة على المواهب والقدرات والكفاءات العلمية والفكرية والاستفادة من خبراتهم وتوفير فرص عمل لهم، وتحتفل الجمعية سنويا بتكريم عدد من المتقاعدين بتوجيهات من جلالة الملك وبرعاية سمو رئيس الوزراء، آخرها كان يوم 8 مايو 2018. ومن التجارب الناجحة عربيًا أيضًا «جمعية المتقاعدين» في المملكة العربية السعودية و«المجلس المصري للشؤون الخارجية»، و«الجمعية الدولية» في الأردن، واللذان يضمان في عضويتهما المتقاعدين من الدبلوماسيين، والسفراء وأساتذة الجامعات، والباحثين المتخصصين، والضباط من الشرطة والدفاع، ورجال الإعلام، وهناك أيضا «جمعية رابطة الأجيال» في تونس، و«جمعية المتقاعدين» في المغرب. وتنص المادة الحادية عشرة من المبادئ العامة للسياسة الخليجية المشتركة لرعاية ومشاركة كبار السن التي اعتمدها مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية لدول الخليج بدورته السادسة عشرة المنعقدة في أكتوبر عام 1999، على: «تصميم برنامج وطني لتشجيع الشيخوخة المنتجة، يعمل على توفير الفرص والمشروعات الفردية التي تدعمها المؤسسات لمصلحة المتقاعدين، كما تشمل تلك الأنشطة تطوير حياة وظيفية ثانية لهم وإيجاد الوظائف على أساس عدم التفرغ؛ لأن الاهتمام بهم له عوائد اقتصادية وأمنية تعود بالنفع على المجتمع، وتعزز الولاء للوطن، حتى لا يشعر الإنسان بأنه مجرد آلة تنتهي مدتها بانتهاء عملها». ويؤكد ملف المؤشرات الإحصائية أن أعداد المتقاعدين في دول مجلس التعاون في عام 2025 تبلغ نحو 25% من السكان. ومع تلك النسبة العالية تبدو مجتمعاتنا في حاجة إلى استثمار خبرة هؤلاء، الذين أعطوا الكثير للمجتمع، وعلى استعداد لتقديم المزيد من واقع خبراتهم المتراكمة وتجاربهم الحياتية. وعملاً بتوجيهات الملك المفدى، ونظرًا إلى الظروف السياسية الحرجة التي تمر بها المنطقة، ومنها البحرين وبما أننا نتحدث عن استثمار خبرات المتقاعدين، فإنني أرى أن هناك بعض الكوادر من الدبلوماسيين والإعلاميين، ممن أثبتوا خلال خدمتهم الكفاءة الوظيفية، وتكونت لديهم الخبرات والعلاقات والاتصالات والصداقات، والذين بمقدورهم أن يكونوا جسرا تعبر عليه الأجيال الجديدة لتحقيق الارتقاء بالأداء، قد أحيلوا إلى التقاعد خلال السنتين الأخيرتين، في حين أنه من الممكن أن يكون لهم دور في مجابهة التحديات التي تواجه المملكة، وخاصة أن أمثال هؤلاء يعدوا «ثروة وطنية» كما وصفها الملك المفدى في أكثر من مناسبة، بما اكتسبوه بدواعي الخبرة وعمق التجربة على مدى سنوات عملهم، وأذكر منهم على سبيل المثال، ومن واقع تعاملي معهم: الدكتور ظافر العمران، خدم الدولة قرابة الـ40 عاما، معظمها في وزارة الخارجية، كان قديرًا في تقديم رسالة البحرين ونهجها، قريب وصديق للسفراء المعتمدين في المملكة ومن خلال هذا القرب يمكن توضيح وشرح وتمرير العديد من الرسائل التي ترغب الوزارة إيصالها إلى دولهم، يتواجد وبشكل دائم في احتفالات السفارات بأعيادها الوطنية وغيرها من المناسبات السياسية ذات العلاقة، وهو خبير في تعزيز العلاقات الثنائية مع الدول الشقيقة والصديقة، ويمتلك مخزونا معرفيا كبيرا في عمل وزارة الخارجية كمحصلة اكتسبها طوال سنوات عمله يمكن أن يفيد منها الأجيال الجديدة من الدبلوماسيين.. وما ينطبق عليه ينطبق على السفير كريم شكر، فهو شخصية قريبة لكل من عرفها، عمل في سفارات عديدة منها جنيف، ومندوبا دائما في الأمم المتحدة بنيويورك، وسفيرا في لندن ثم بكين، ومساعدًا لوزير الخارجية. شارك في العديد من المؤتمرات، ومثّل البحرين في العديد من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، هذا الكم من الخبرة الدبلوماسية والسياسية لدى هذه الشخصية المعروفة بولائها والتزامها الوطني فإن الاستعانة بها مفيد لاستكمال مسيرة العطاء في هذه المرحلة الحرجة. والشيخ عبدالعزيز بن مبارك آل خليفة، الذي أدار وأشرف على وحدة الصد والرد، في وزارة الإعلام أثناء تولي المسؤولية فيها الشيخ فواز بن محمد آل خليفة، كانت هذه الوحدة تقوم بالرد على كل ما تنشره الصحف والمجلات الأجنبية، وما يصدر عن المنظمات الدولية، وتصحح المعلومات المغلوطة وتضيف إلى المنقوصة منها أي أنها عملت على توضيح الصورة الحقيقية.. ولا بد لي هنا أن أشير إلى أن عدد المرات التي انتقدت فيها وسائل الإعلام الأجنبية البحرين منذ بداية عام 2017 حتى إعداد هذا المقال يوم 8 مايو 2018 كان في الصحافة البريطانية 221 وفي الصحافة الأمريكية 256 وفي المنظمات الحكومية البريطانية 5 والأمريكية 10 والمنظمات الدولية الرسمية 38 وغير الحكومية 30 والحقوقية 131 وهي أرقام موثقة لدى وحدة دراسات البحرين بالمركز التي ترصد بشكل يومي كل ما ينشر عن المملكة، ولهذا فإن المصلحة الوطنية وحتى الخليجية تستلزم الإبقاء على هذه الوحدة وإعادة تنشيطها وتفعليها. إلى جانب ذلك كان الشيخ عبدالعزيز ضيفا دائما على القنوات التلفزيونية والمقابلات الصحفية ويرد على أسئلة وكالات الأنباء العالمية بشكل راقٍ ومهني، ومحاور هادئ وواثق، فهو دبلوماسي محنك نجح في عمله كوكيل لوزارة الخارجية، ونجاح آخر كسفير في لندن، واقترب كثيرًا من المنظمات الحقوقية لصالح البحرين مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة حقوق الإنسان التابعة للبرلمان البريطاني ويضاف إلى إنجازاته تمكنه من كشف زيف المعارضة في لندن وشق صفوفها وإضعافها ونجح في إقناع بعض أعضائها بالعودة إلى الوطن، وكان لجمعية الصداقة البحرينية البريطانية نشاطات متميزة في عهده وبرعايته وكذلك جمعية الصداقة البرلمانية البحرينية البريطانية التي وصل عدد أعضائها بجهوده وتواصله إلى 90 نائبًا من مجلسي النواب واللوردات ومن الأحزاب المستقلة. هؤلاء مازال لديهم الكثير لتقديمه لوطنهم الذي هو بحاجة لهم في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ المنطقة.
مشاركة :