يا سوسو، ليست مجرد جملة اشتهرت بها الدمية المصرية أبلة فاهيتا، ولكنها إسقاط على أسلوب حياة كامل يعيشه بعض الأبناء في كنف أسر يدفعها التدليل الزائد لأبنائها لإلغاء شخصياتهم كليا والتفكير نيابة عنهم بصورة فجة تدفع للسخرية من الأبناء المدللين. ولا يستلزم الأمر أن تكون الأسر التي تعمل على انتهاج مبدأ التدليل والحماية الزائدين أسرة ثرية أو متوسطة الحال أو حتى فقيرة، فالكثير من الأسر من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية والاقتصادية تعمد إلى هذه الأساليب الحمائية، خاصة في حالة الطفل الوحيد أو بعد رحلة طويلة ومعاناة من تأخر الحمل والإنجاب. يتندر الشباب ويتضاحكون على الطفل والشاب المدلل في لقاءاتهم الشبابية بما يثير حفيظته وقد يكون سببا للعراك بينهم وتنتهي بمشاجرة لا تحمد عواقبها، فقط لأن هذا الشاب المدلل لم يدرك التصرف اللائق في المواقف المختلفة. الوالدان بالطبع يسعيان لأن يكون أبناؤهما مثاليين ويعيشون في راحة ورفاهية، ولكن في رحلة تربية الأبناء الكثير منا يرتكب الأخطاء وربما الحماقات. لي زميل صحافي تخطى عمره الأربعين بعدة أعوام ولم يستطع إلى الآن اتخاذ قرار الزواج رغم كونه ابن أسرة ثرية ولا ينقصه ما ينقص الشباب المكافح لمثل هذا القرار، لديه فيلا فارهة وحياة ترف تدعو للتساؤل والتعجب في آن! قابلته قادما من سنوات الغياب وعمرا طال بعد آخر لقاء في سنوات العمل الأولى. صدفة التقيته في غير صورته الأولى المتأنقة في حياة والدته، كان مدللا للحد الذي تراه يشبه نجوم سينما السبعينات بملابسهم الراقية وألوانهم التي تنطق بالأرستقراطية والرقي، كانت له طلة مليحة ووجه بشوش، كنت أناديه يا “ابن الناس الكويسين”، لكنه اليوم آخر لا يشبه نفسه التي كانت حتى في تضخم الذات الأنوية شديدة النرجسية، كان رثا غريب الهيئة. الأسئلة التقليدية بين الأصدقاء وزملاء الدراسة والعمل بعد سنوات الغياب تنحصر في الديباجة المعتادة، ماذا تفعل الآن؟ وماذا أنجزت في حياتك؟ هل تزوجت؟ كم من الأبناء معك؟ بادرت أنا بالسؤال والإجابة أيضا، بثلاثة أبناء أشعر بأن للعمر مذاقا ولأيامي معنى، أتمدد في العمر بطوله وعرضه وأنا سعيدة بأن لي أفرع يمكنها التجذر في الأرض بقوة، وأن تكمل الرحلة، وتلتقط بقية الأحلام المفروطة من عقد الزمن، وتصنع بها عقدا جديدا من اللؤلؤ يزين تاريخي حتى وأنا تحت التراب ولم يبق مني غير لوحة من الرخام ورفات. ضحك وقال لم أتزوج. عجزت عن اتخاذ القرار في غياب “ماما” الأبدي، كانت تفكر لي وعني، فلم أذكر أنني تعاملت مع عقلي بشيء من الاستقلالية يوما ما، تزوج أخي ثلاث مرات وأنجب كثيرا لكنه لم يستطع الحفاظ على حضن امراة، أفسدته أمي وأساءت له بالحب ودون وعي، لم يعرف كيف يحافظ الرجال على بيوتهم ويظللون على أسرهم. بكيت بشدة لحال زميلي الذي ضيعه الحب، وتساءلت: ماذا لو كان أحد أبناء الطبقات المتوسطة أو الدنيا والكادحة؟ ولكنه أجاب على هذا التساؤل بنفسه، كانت أمي من سيدات الطبقة الراقية، خشيت علينا من كل شيء حتى أصبحنا لا شيء، ليتني كنت فقيرا ولي أسرة تربي، تقسو وتحنو، تحـب وتدلـل ولكنـها لا تغـفـل العقـاب. وفي رأيي، يمثل هذا التدليل المبالغ به قنبلة موقوتة تنفجر في وجوه المحيطين بالطفل وفيه هو نفسه، إذ يجعل منه شخصية هشة غير قادرة على اتخاذ القرار الصائب والوقوف في وجه الأزمات الحياتية بل يصبح كأعواد الثقاب تحترق سريعا وتتحول إلى رماد. يعلو سقف مطالبه دائما ولا يمكن الوقوف أمامها وتصبح ككرة النار فهو متطلب دائما حتى أن بعض الأسر تعجز عن الوفاء لطلباته، ويرفض الرضوخ للأوامر. وفي رأيي، نحن في حاجة لخطاب اجتماعي جديد يعالج الأساليب التربوية الخاطئة للأسر في ظل تغير الكثير من المفاهيم الحياتية بفعل الضغوط المعيشية والثورة التكنولوجية، وإنتاج الكثير من القصص السينمائية والمسلسلات التلفزيونية على غرار فيلم “المواطن مصري” للراحل عمر الشريف وعزت العلايلي، ومسلسل “حمادة عزو” للكوميدي يحيى الفخراني والراحلة كريمة مختار لزيادة الوعي المجتمعي بأهمية تربية الأبناء على تحمل المسؤولية والخروج الآمن من عباءة آبائهم.
مشاركة :