يشكل القرن الرابع الهجري مشهداً سياسياً شديد التعقيد، مليئا بالصراعات والانقسامات، لكنه ينجلي عن لحظة استثنائية بازدهار ثقافي واضح، وفضاء متخم بأسماء وأعلام على المستويات العربية، بما لا يقارن مع أية مرحلة من مراحل تاريخ هذه الحضارة العميقة، وعبر هذا المشهد يقف مثقف هذا العصر محاصراً في مساحة ضاغطة، ومأزق بين أصحاب السلطان، أو النخبة الحاكمة من ناحية، والعامة من ناحية أخرى.تقدم لنا د. هالة أحمد فؤاد في كتابها «المثقف بين سندان السلطة ومطرقة العامة» مشاهد متنوعة بالدلالات الكاشفة لطبيعة العلاقات بين سندان السلطة ومطرقة العامة، وما تنطوي عليه من خبايا وتعقيدات، حيث تناول نموذجاً لتجربة التوحيدي كمثقف كبير من مثقفي القرن الرابع الهجري، لكنه عانى التهميش وعاش علاقة مركبة مليئة بالتناقض، والمفارقة مع أصحاب السلطان من جانب، والعامة من جانب آخر، بالإضافة إلى أقرانه المثقفين الكبار. إنها إشكالية مأزق المثقف ما بين سندان السلطة ومطرقة العامة إشكالية قديمة حديثة تقليدية متجددة دوما، لم تزل تطرح نفسها، وتعلن عن حضورها المثير المدهش في واقعنا المعاصر، موضوع يبدو متكرراً وحديث لا يكف المثقفون عن الإطناب فيه، والتشدق به إلى درجة أنه قد يغدو أحياناً مبتذلاً ولا قيمة له.لا يسعى الكتاب إلى تقديم إجابات بقدر ما يسعى إلى إثارة تساؤلات، وطرح استفسارات ورصد مشاهد مثيرة ومربكة ومحيرة تجسد وجوها متباينة لتلك العلاقات المتشابكة.
مشاركة :