يعد محيي الدين ابن عربي أحد أقطاب الفكر الإسلامي صوفي النزوع والتوجُّه، إلى جانب متصوِّفة آخرين كبار كالحلاج، وأبي يزيد البسطامي، وإبن الفارض، وقد ألهمت أفكاره مفكرين وفنانين كثر في مشارق الأرض ومغاربها، لما تشتمل عليه من قدرة استبطانية وتأملية عميقة الغور، وللسبب نفسه، يشكِّل قنبلة موقوتة لهؤلاء الذين يدورون في فلك الحرف والنص. ولد ابن عربي في مدينة مرسية من أب مارسي وأم أمازيغية، ويعرف عند الصوفيين بالشيخ الأكبر والكبريت الأحم، ويعتبر واحدًا من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور. كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن مشاهير الزهد والتقوى والتصوف، وكان جده قاضيا وعالما أندلسيا كبير، فجاءت نشأته في مناخ ديني. انتقل والده إلى إشبيلية التي كان يحكمها آنذاك السلطان محمد بن سعد، وكانت حينئذٍ عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، وما إن جرت الكلمات على لسانه حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات السبع، وقرأ عليه كتاب الكافي، فأصبح ملما بالقراءات والمعاني والإشارات وهو إبن العاشرة، ثقبل أم يسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه تنتقل بين البلاد، حتى استقر أخيرًا في دمشق طوال حياته، وكان واحدًا من أعلامها حتى وفاته عام 1240. لا شك في أن استعداد محيي الدين الفطري، بالإضافة إلى نشأته في بيئة دينية، وتردده على المدارس الرمزية، كلها عوامل ساهمت في إبراز الناحية الروحية عنده في سن مبكرة، فلم يكد يتم العقد الثاني من عمره حتى انغمس في أنوار الكشف والإلهام، وبمجرد أن شارف العشرين، أعلن أنه جُعِل يسير في الطريق الروحاني، وأنه بدأ يطلع على أسرار الحياة الصوفية، وأن عددًا من الخفايا الكونية قد تكشفت أمامه، وأن حياته سلسلة من البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية. وبات عاكفًا حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار، والأكثر من ذلك أنه حين كان لا يزال في قرطبة تعرف على أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس والإغريق كفيثاغورس، وأمبيذوقليس، وأفلاطون، وهذا هو سبب شغفه بالاطلاع على جميع الدرجات التنسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقيين بهئية مباشرة، وقد ألف كتاب الفتوحات المكية الذي يمكن تتبع أقواله فيه. من أبرز مؤلفاته كتاب "تفسير ابن عربي"، و"قائمة مخطوطات إبن عربي"، و"الفتوحات المكية"، المكوُن من 37 سفر و560 باب، وقد وُصف بأنه من النصوص الصوفية الموغلة في التعمق، وأن لغته رمزية وبها إشارات إلهية، و"فصوص الحكم"، و"ديوان ترجمان الأشواق"، و"شجرة الكون". وقد توفي في 16 نوفمبر عام 1240.
مشاركة :