الرواية هي فن الحياة ومتخيلها، وبؤرة الواقع ومتصوره، وإعادة لصوغ شريحة من الحياة تتداخل في خطوط الزمان والمكان والشخوص والأحداث المتفاعلة مع تأزمات الواقع بشتى صورها وأشكالها، هي بؤرة كاشفة لتشّكل نسغ الإنسان في جوانب الحياة المختلفة، في أنساقها الواقعية والأسطورية والتاريخية، لذا كان لا بد أن يتجذر هذا الفن السردي في واقعنا الأدبي، وأن تجذب هذه المنطقة الأدبية الثرية كثيرا من رموز الأدب إليها بأطيافها المختلفة شعراء ومفكرين وفلاسفة وروائيين أصلاء، والأمثلة على ذلك كثيرة في المشرق والمغرب العربي، فمنذ أن وضع ثربانتيس في «دون كيشوت» رؤيته التخييلية الحكائية المثيرة حول الواقع والمتخيل حين بدأ مبارزة الطواحين المتخيلة من خلال واقعه الذاتي المأزوم، بدأت تتناسل هذه الثيمة الثرية في مجال الرواية وتأخذ طريقها إلى الساحة السردية العالمية وتتنوع مجرياتها وتؤثث آلياتها من حكايات البشر ومتخيل واقعهم، ورؤى فلسفة حياتهم، وصراعاتهم المختلفة، وبدأت ملامح دون كيشوت تتواجد في الكثير من مخيلة الفن الروائي، تأخذ من الناس أوجاعهم وهمومهم وسيرتهم وأحوالهم لتحيلها إلى سرد ينبض ويتشكل في متخيل روائي حي، وتأخذ من لغاتهم وتجليات آدابهم وتقنيات فنونهم الكثير، لتعيد صياغة الواقع مرة أخرى في فنية أدبية تتنامى وتتواتر نصوصها على مر الزمن، ولعل المشاهد الروائية في العالم تتنوع مصادرها وتوجهاتها في العديد من الرؤى، اجتماعية وسياسية وتاريخية وفلسفية ولكنها جميعها تصب ناحية الرؤى الإنسانية العامة على إطلاقها في هذا الفن الأثير عند الجميع. ولعل مشكلة الخيال في الفن الروائي -وجدلية العلاقة بين الواقعي والمتخيّل- هي أن الخيال هو المصدر الأساسي في تنضيد النص الروائي ومنحه جواز المرور إلى ساحة السرد في جنس الرواية باعتباره هو الجهة التي يستقي منها الكاتب ملامح عمله بشخصياته وأحداثه وقضايا موضوعاته وآليات كتابته، ولأن الخيال هروب من الواقع فإن هذا الهروب يمنح تجليات الكتابة الروائية رؤية جديدة لهذا الواقع تنتج عن إعادة صياغته في شكل فني مثير ليس هو الواقع بعينه ولكنه واقع شبيه به. والرواية هي الفن الذي أوجدته عقود عدة لبحث حقائق الإنسان وإشكالياته من خلال التجربة الإنسانية في شتى أشكالها وتوجهاتها. والروائيون يعيشون ليروا الحياة ماثلة أمامهم بزخم ما يحدث فيها، ومن ثم هم يحاولون تعميق آفاقها بتجليات كتاباتهم التي يستلهمون فيها ما يحدث؛ فهم ينتزعون الشخصيات من الحياة ويجسدون الأحداث من الواقع ويعايشون قضايا المجتمع ويتفاعلون معها مما يجعل الطرح الروائي في تجاربه وتجليات نصوصه هو الأهم والأنفع والأرفع، فالرواية الحديثة بنية فنية دالة، وتشكيلها الفني تجسيد لرؤية جمالية تتباين وتضيء الواقع في صورة فنية تتنوع رؤاها من نص إلى آخر. وما كتب عن الرواية كثير، كثير جدا، وما سيكتب عنها أكثر مما كتب.. والرواية العربية بتراكمها الكمي والنوعي في ساحة السرد العربي تعيش حالة من التراكم اللافت ومحاولة الحضور في زمن يسمى الآن زمن الرواية، ولا شك أن ظهورها بهذا التراكم اللافت يحتاج إلى تراكم الخبرات الفنية والأدبية وتطور الوعي الجمالي والانفتاح على المشهد السردي المحلي والعالمي على السواء. والكاتب الروائي العربي في هذا المجال يبحث عن ذاته ونقيضها، وحينما يتم له الاكتشاف فإن الأمر يعود إلى القارئ الذي يبحث عن النص الجيد المقروء وهو بداية طريق التلقي والاثنان يوقعان تحت اسم واحد هو فن الرواية وزمانها المفعم بالغواية لكل منهما. وتضاريس الكتابة الروائية تختلف من كاتب إلى آخر كما تختلف من مكان إلى مكان، ومتابعة التجارب الروائية العربية نصوصها ومتونها الآنية المختلفة تكشف عن سمات كتابية مختلفة في النصوص الروائية بين كثير من المناخات السردية المختلفة، ولعل هذه المجموعة من الدراسات التي استهدفت عددا من النصوص الروائية ربما تفصح عن هذه الاختلافات في الشكل والمضمون والتجارب ومفاتيح أبواب السرد. في هذه الانتقاءات تكمن في ذائقة القارئ، وتفاعله مع النص الروائي على إطلاقه، ومن خلال هذه النصوص المقروءة والمنتخبة من المشهد السردي العربي نجد أن ما تمثله الرواية في العراق في أعمال الروائيين: أحمد خلف، ومحمود سعيد يختلف عن مناخات الرواية عند المغاربة: محمد زفزاف، وإدريس الصغير، وجميعهم أبناء جيل واحد هو جيل الستينيات في مجال السرد القصصي والروائي العربي لكن المناخات والمنابع والواقع الخاص بكل منهم يختلف في مساحته وشكله ومضمونه. كما يمثل التاريخ عند الغربي عمران من اليمن، والنص المراوغ عند يوسف المحيميد في نكهته وذائقة تناوله بعدا آخر في مناخات المشرق العربي. كما نجد أن تعدد مستويات السرد عند الكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن التي اشتغلت على تخوم كاتبة فرنسية هي مارجريت دوراس يمثل حالة من حالات التشابك الأنثوي بين كاتبة وأخرى، كما يمثل التماهي داخل الأسطورة في رواية التونسي صلاح الدين بوجاه حالة من حالات التجريب النابعة من الاشتغال على المتخيل الغرائبي، إضافة إلى الشهرزادية والمسكوت عنه عند الأردني صبحي فحماوي بما تحويه من سخرية وأبعاد حكائية أضفت على النص أبعاد رؤيوية في الشكل والمضمون، كما تحتفي أسئلة الرواية عند السوري عدنان فرزات برؤية مفادها البحث عن آيديولوجية البحث عن أسئلة وإجاباتها، وتشير نزعة الصخب والعنف عند اللبناني حسن داوود في نصه الروائي بالاتكاء على المجهول في أرضية جديدة يغلفها المكان بأحداثه الغريبة. هذه التيمات الروائية المختلفة هي القادمة من منظور قرائي تحليلي وقد تم انتخابها استنادا إلى معايير جغرافية وموضوعية وفنية، وإلى طبيعة القضايا الأدبية والنقدية التي تثيرها كل تجربة، فكل تجربة لها عالمها الخاص المستمد من عالم الكاتب وطبيعة رؤيته لأفق وتجليات الكتابة الروائية في هذا العالم، كما أن لها تفاصيلها البنائية وأسئلتها المثارة داخل النص والمعايير الأدبية واللغوية والمرتكزات الخاصة بفلسفة الجماليات في نسيجها السردي. وفي هذا السياق لن أتحدث عن التنظيرات الروائية المختلفة وتطور الحكاية وما آلت إليه الآن، ولكن إضاءة هذه النصوص من خلال رؤى نبعت جميعها من داخل هذه المتون هي التي تشير إلى نفسها وإلى ما تحويه في نسيجها الروائي من معادل موضوعي ارتآه الكاتب عبر مفردات فنية يمتلكها ويحاول بها أن يكتب روايته على النحو الذي جاءت عليه. وهذا الكتاب كما يدل عنوانه «تجليات روائية» يسعى إلى البحث عن التجليات داخل النص الروائي من خلال ما يعرضه من قضايا وما يطرحه من شخوص محورية وثانوية، حيث إن الولوج إلى منعطفات الرواية والتجول في دروبها ومحاورة شخوصها والوقوف على أبرز قضاياها وأسئلتها يجرنا إلى الحديث عن الرواية في اتساع رقعتها محليا وعربيا وعالميا وتأثيرها المباشر وغير المباشر على القارئ الإنساني في مضمار التهافت الزمني على حركة الرواية في أشكالها المختلفة.
مشاركة :