تطرقت لشخصية جلال الدين الرومي، والعلاقات المتشابكة بين التبريزي وكيميا وحسام الدين وعلاءالدين، أعمال روائية كثيرة، منها رواية “قواعد العشق الأربعون” للتركية أليف شفق، و”الرومي نار العشق” للإيرانية نيهال تجدد، و”بنت مولانا” للبريطانية مورل مفروي، وأخيرا رواية المصري أدهم العبودي “حارس العشق الإلهي: التاريخي السري لمولانا جلال الدين الرومي”. قارئ هذه الروايات يلحظ أن تمثيل شخصية الرومي، جاء متباينا. فتعامَلَ الروائيون مع الشخصية الواقعية بمبدأ الاختيار والانتقاء، وهو مبدأ أصيل في كتابة السّير الذاتيّة أو الغيرية. حيث ينتقي الراوي من الأحداث والوقائع، ما يُمثّل له أهمية معينة. وبناء على هذا ركّزت بعض الأعمال في الكتابة على سيرة الرومي وعلاقته المتداخلة مع شمس التبريزي، على نحو ما هو واضح في رواية أليف شفق التي توقفت كثيرا عند مسار هذه العلاقة الشائكة، وتأثيرها على من حول الرومي كما في شخصية علاءالدين شلبي ابن الرومي نفسه، الذي كانت تربطه بشمس علاقة ارتياب زادت حدتها بعد زواج شمس من كيميا التي كان يرغب فيها علاءالدين. لم تحظ شخصية ثقافية، وعلى وجه التحديد عرفانية / صوفية، بهذا الاهتمام في الخطاب الروائي، كما حظيت شخصية جلال الدين الرومي. فتناولتها أعمال روائية عديدة من جنسيات مختلفة. مبعث هذا الاهتمام يعود أولا إلى ثراء الشخصية، وشبكة العلاقات التي ارتبطت بها، على نحو ما هو ظاهر في علاقتها بشمس الدين التبريزي أو كيميا وكذلك شخصية كيرا، وثانيا لزخم العصر الذي نشأ فيه الرومي، وما شهده من أحداث جسام كان لها بالغ التأثير على الإسلام؛ حيث شهد عصره هجمة التتار البربرية على ديار الإسلام. وفي بعض الأعمال غابت شخصية الرومي على حساب شخصيات أخرى كان لها دور مهمّ في مسيرة الرومي، مع أنه يمكن وسمها بالشخصيات الثانوية، كشخصية كيميا التي أفردت لها الكاتبة البريطانية مورل مفروي عملا منفردا وسمته ببنت مولانا، فمنحتها دور البطولة المطلقة. نفس الشيء فعلته نيهال تجدد في استدعائها لشخصيتي حسام الدين وصلاح الصائغ. لما للأول من دور في جمع وكتابة المثنوي وإن كانت أشارت إلى الصراع بين الشخصيات التي كانت ترافق مولانا على نحو صراع شمس الدين مع صلاح الصائغ الذي كان يزجره شمس لعدم نطقه الحروف. أما أدهم العبودي فركز على حياة الأشخاص المحيطين بمولانا، كبهاء الدين والد جلال الرومي وشخصيتي شاهين وكيرا ولجأ في الشخصية الأخيرة إلى بناء تاريخ متخيّل لها. الجامع المشترك بين هذه الروايات، مع التباين في التمثيل والحضور، هو شخصية الرومي، حيث شكّلت المحور المشترك للروايات الأربع، إلا أن ثمة فوارق كثيرة بين هذه الأعمال، كشفت عن التباين في الاستدعاء وتعدد أوجه الحضور. ومن هذه الفوارق ما عكس التكوين الثقافي للكتّاب أنفسهم، الذي كان له بالغ الأثر في التركيز على أبعاد معينة من شخصية الرومي. فأليف شفق تنطلق من هم ثقافي لازمها في مسيرتها العلمية والأكاديمية، فانشغالها بالرومي جاء نتيجة لاهتمامها بالتصوف بصفة عامة، والرومي بصفة خاصة. وبالمثل نيهال تجدد، التي كان للبيئة التي نشأت فيها وخاصة أمها الأكاديمية، التي كانت تُدرِّس الرومي في الجامعة، وتترجم أعماله إلى الفارسية، الدور الأبرز في التعرف على الرومي، ومن ثم جاء الاهتمام بهذه الشخصية بعدما لاحظت هذا الثراء الفكري والروحي. أما أدهم العبودي فاعتمد على قائمة من المصادر والمراجع، كانت بمثابة الركيزة الأساسية والمادة الخام لمرويته، فهو ينفي في أحاديثه الاهتمام بالرومي أو تاريخه الصوفي المعروف، ومن ثم طغى على مرويته الجانب التاريخي بدءا من التأريخ لنشأة المدن كبلخ وتبريز ونيسابور، وما حلّ من جرائم التتار من دمار لمدن ترمز وبلخ ومرو، وكذلك الشخصيات، فيتعقب كل شخصية من شخصياته الأساسية؛ شاهين وجلال الدين وكيرا منذ طفولتهم، وتبدل مساراتهم في البلدان وصولا إلى النهاية التي انتهوا إليها. ثمة فوارق بين الأعمال، ما عكس التكوين الثقافي للكتّاب أنفسهم، ما كشف عن التباين في الاستدعاء وتعدد أوجه الحضور كما انعكس التكوين الثقافي على بناء الشخصية الروائية، فأليف زاوجت في عملها بين حكايتيْن الأولى كانت عن الرومي وعلاقته بشمس، انتهاء بمقتل شمس نفسه في ظرف غامض، لم تفصح عنه. إلا أنه كشف عن حجم الصراع في العلاقات الإنسانية، وهو ما أظهرته بصورة جلية في الحكاية الثانية المتوازية مع حكاية الرومي وهي حكاية إيلا، التي على مشارف الأربعين من العمر، وتعيش مع أبنائها وزوجها “ديفيد” طبيب الأسنان في ولاية ماساشوستس بأميركا، حياة رتيبة ومملة، تفتقدُ الحبّ. تتميز الروايات الأربع باستحضار شخصيات مختلفة كان لها حضور بارز في علاقة الثنائي شمس – مولانا، فأليف شفق تتوقف عند شخصية علاءالدين ابن مولانا وصراعه مع شمس حيث تنافسهما على حب كيميا، ونيهال تتوقف عند شخصية حسام الدين ودوره في كتابة المثنوي، وبالمثل تفرد مول مفروي مساحة كبيرة لشخصية كيميا سلطان المعروفة باسم “بنت مولانا”، بوصفها شخصية ثانوية ارتبطت بشمس الدين التبريزي صديق مولانا، ولعبت دورا مهما في العلاقة بين شمس ومولانا من جانب، وشمس وعلاءالدين ابن مولانا الذي لم يكبح زمام عواطفه، فأوغر صدره ضد شمس الدين، من جانب آخر. فتتبعت سيرة كيميا منذ طفولتها، ودور محمد الناسك الذي اهتم بتعليمها وغرز فيها حب مولانا، مرورا بانتقالها إلى قونية بناء على توصية الأب كريستوم، الذي ألحّ على تعليمها، والمصادفة التي لعبت دورا في لقائها بمولانا، انتهاء بمرضها الذي انتهى بموتها، واختفاء شمس حزنا عليها. أما أدهم العبودي فيستحضر شخصية شاهين الدرويش الأعمى الذي يتعرّف على شمس التبريزي في قونيةّ ويلزم رفقته. وبالمثل يصنع تاريخا لكيرا المسيحية التي تزوجها الرومي. وهو التاريخ المجهول في معظم الروايات التي تطرقت لشخصية الرومي، ولا ينسى وهو يسجل تاريخ شخصياته أن يروي عن حياة الرومي وفراره مع أبيه بعد هجمة المغول، ودرسه على يد فريدالدين العطار. ربما كانت المغايرة التي يسعى إليها العبودي من كتابة عمل سبق وأن تناولته أقلام عديدة، هي ما أوقعته في فخ هذا الاختلاق للتاريخ المغاير، وإن كان مع الأسف أوقعه في مآزق عديدة أهمها الاستطرادات التي أضرت بالحكاية، إضافة إلى غياب الجانب الأهم في شخصية مولانا، وهو الجانب الصوفي، واقتصار الحكاية على موضوعات اجتماعية وحكايات فرعية لم تفد الحكاية. الكاتبة البريطانية مورل مفروي منحت لشخصية كيميا دور البطولة المطلقة الكاتبة البريطانية مورل مفروي منحت لشخصية كيميا دور البطولة المطلقة ومع الفوارق بين الروايات في التناول والتي تكشف أولا عن مهارة تطويع المادة التاريخية وتذويبها في الحكاية المتخيلة إلا أننا لو قرأنا الروايات الأربع معا، لصارت لدينا رواية متكاملة عن سيرة الرومي وعصره وتلاميذه. فالحقيقة أن الروايات عملت على سدّ ما يمكن وصفه بالمساحات الفارغة في السرد، فعرضت كل رواية لشخصية جاء تناولها هامشيا، فحضرت حضورا قويّا، ومن ثم هذا الحضور أفاد ليس في ترميم ثغرات وفجوات السرد التي كانت غائبة في النص فقط، وإنما في تقديم صورة أوضح لمولانا عبر تشابك شخصيته مع هذه الشخصيات الثانوية. أما نيهال تجدد فجعلت من شخصية حسام الدين الجلبي، الرواي الذي يروي بحكم موقعه من مولانا، راصدا لكافة التغيرات التي لحقت بمولانا منذ وصول شمس إليه. وأثر رحيل شمس على مولانا والبيت. الجانب الأهم الذي مررته نيهال هو سرد حكاية المثنوي وكيفية تمت كتابته. مع أن الكاتبة قسمت الرواية إلى ثلاثة أقسام هيمنت شخصية مولانا وكراماته وفيوضاته على الجزء الأعظم منه، إلا أنها توقفت عند شخصية حسام الدين، وهذا الاهتمام لم يقتصر على ما أوردته في المتن الحكائي، وإنما استفاضت فيه في الخاتمة التي كانت بمثابة تعليق على الرواية أو سيرة للكتابة حيث أوضحت سبب انحيازها لشخصية حسام الدين الجلبي، ولماذا جعلت الرواية بلسانه بالضمير المتكلم، وكذلك اعترافها بأن العمل ليس سيرة ذاتية علمية، ومع تحفظنا على سبب عدم كونها سيرة ذاتية علمية، فعلى حد قولها كانت زودتها بقائمة شاملة من أعماله. فطغيان السيري لم يقلل من جانب التخييل الذي اعتمدته الروائية، فالكاتبة التزمت في الحوارات بتضمين كافة الجمل والعبارات التي قالتها تلك الشخصيات حقا ولم تختلق شيئا. وعلى النقيض تماما تحررت أليف من الجانب الوثائقي وجنحت إلى الخيال سواء بتخيل الكثير من أجزاء الحكاية، وكذلك بالنهاية التي رسمتها لمولانا وابنيه، علاوة على الحكاية المتوازية معها وهي متخيلة بامتياز، وربما هذا التحرّر من الوثائقية ما دفع العبودي إلى أن يضع عنوانا فرعيا لروايته: التاريخ السري لمولانا جلال الدين الرومي، متوهما أن من كتبوا عن الرومي أسقطوا جوانب من حياته الشخصية، دون أن يضع في اعتباره مقتضيات الكتابة السيرية الذاتية والغيرية القائمة على مبدأ الاختيار والانتقاء، فليس كل ما يخص الشخصية يروى. ما يهم في الأخير أن ثراء شخصية الرومي، هو ما دفع الكُتّاب –على اختلاف جنسياتهم- إلى الاهتمام بتناول شخصيته عبر أعمالهم. وعلى تعدّد هذه الأعمال يبقى عمل أليف شفق هو المتميز على الإطلاق، إضافة إلى أنه الملهم لاستحضار شخصية مولانا في الكتابة الأدبية.
مشاركة :