اليابان من وجهة نظر عربية: أعطني سمكة... أم علمني الصيد؟!

  • 5/19/2018
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

كتب جورج برنارد شو، «الرجل العاقل يكيف نفسه مع العالم، والرجل المتهور يصر على محاولاته لكي يتكيف العالم معه. لذلك، يعتمد تطور العالم على الرجل المتهور». ويستغل الرجل المتهور الفقر والجهل في المجتمع، ليلهب عواطف الفقراء ويوجههم نحو العنف والإرهاب، كما يستغل الإرهابي العنف، غير القانوني واللا أخلاقي، ليحاول إجبار المجتمع على تحقيق أهدافه الإيديولوجية. وطبعا يختلف الإرهاب عن النضال، فالنضال له أعرافه وقوانينه وأخلاقياته وإنسانيته، بل ترتبط أهميته بالجهود الأخلاقية المخلصة لتطوير المجتمع سلميا، لخلق تنمية مستدامة. فلا يعتبر قتل الاطفال والنساء والمدنيين نضالا، بل ما هي إلا جريمة عنف فوضوية يحاسب عليها القانون، بل ينشئ أجيالا انتقامية مريضة سيكولوجيا، ويؤدي إلى رد فعل مجنون. وفعلا نحن نعيش عالم الجنون الانتقامي اليوم. فقد قالها مهاتما غاندي من قبل: «العين بالعين خلق عالما أعمى». وها هو العالم الأعمى الذي نعيشه اليوم. وطبعا الظلم وغياب العدل يساعد الإرهابيين على إشعال نار الإرهاب، والفقر هو الوقود الذي يستغله الإرهابيون لنشر احقادهم في المجتمعات المختلفة. وطبعا لكي نستطيع محاربة الإرهاب يجب أن نستوعب أسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ونعالجها بحكمة ونعمل للوقاية من تكرارها. «الحرب ضد الإرهاب» بالقضاء على القوانين، وغزو الدول، وقتل المدنيين بالقنابل، يخلق الفوضى ويزيد الفقر، ويعدم الأمان، ويغذي الإرهاب، ويضعف الاقتصاد العالمي. لقد عانى العالم العربي من غزو المغول واحتلال الامبراطورية العثمانية والاستعمار المعاصر. وحينما ترك الاستعمار المنطقة عسكريا، استغل جميع وسائل الواقعية السياسية، «الريل بوليتيك»، ليضمن استمرارية المحافظة على مصالحه المستقبلية. فقد جزأ الوطن العربي الى دويلات صغيرة، وبحدود مبهمة ليستمر الخلاف والانشقاق، كما استغل مأساة اليهود لزرع إسرائيل في قلب الامة العربية، لإبقاء المنطقة، بذكاء، في صراعات دائمة، لتستمر ضعيفة، فتقوي سلطته عليها، ويستنفد خيراتها وبرخص، ويمنعها من الصعود مرة أخرى، لكيلا تكون خطرا عليه. وقد كتب فون رون القائد البرويسي، وصديق الزعيم الألماني بسمارك، يقول: «لا أحد يأكل من شجرة اللا أخلاقيات بحصانة». وهذا ما يواجهه العالم اليوم. فهو يدفع ثمن أخلاقيات دبلوماسية القرن العشرين الواقعية. فالظلم وغياب المساواة والعدالة، والصراعات الدينية والطائفية والعرقية، شغل العالم العربي بما سميناه الإرهاب، فكيف سنواجه هذه المعضلة ونتعامل معها بحكمة؟ فهل علينا فهم وتقييم تاريخ المنطقة ومعتقداتها وثقافتها، لمعرفة كيفية القضاء على الإرهاب؟ ألم يتحول، ما نسميه الحرب على الإرهاب في نظر البعض، إلى حرب على مليار وثلث مسلم في العالم؟ فلو أردنا إنهاء معضلة الإرهاب العالمي هل يجب وقاية المجتمعات من معضلات الظلم والفساد وعدم المساواة والفقر والجهل؟ ألن يستمر الإرهاب في الازدهار إذا استمر الظلم والفقر، وخاصة أن الفقر مترافق مع الجهل، والجهل خير وقود يستعمله الرجل المتهور لإشعال نار عواطف الحقد والعنف والانتقام في المجتمع؟ يقدر سكان العالم اليوم بحوالي سبعة مليارات، ونصف هؤلاء تقريبا يعيشون على دولارين فقط في اليوم. فتصور كيف من الممكن ان يعيش هؤلاء بكرامتهم مع عائلاتهم، ويلعبون دورا في الانتاجية وبناء اقتصاد هذا العالم. ومن المتوقع أن يرتفع سكان العالم الى حوالي اثني عشر مليارا في عام 2100. وسيكون أحد عشر مليارا منهم يقطنون في العالم الثالث. فهل من الممكن أن تتصور عزيزي القارئ، كم سيكون عدد الفقراء في العالم في ذلك الوقت؟ كما أن الفقر مشكلة أمنية خطيرة في العالم المتقدم أيضا. فمثلا هناك أكثر من تسعة وثلاثين مليون فقير في الولايات المتحدة، بالإضافة الى وجود أربعين مليون مواطن من دون تأمين للرعاية الصحية، كما أن البطالة، بوابة الفقر، مشكلة مهمة في بعض الدول الأوروبية، وخاصة بين المهاجرين. لذلك يحتاج العالم إلى خطط جادة للقضاء على الفقر، إذا كنا فعلا جادين في القضاء على الإرهاب، ويكرر الشعب الياباني المقولة: «أعطني سمكة تشبعني اليوم وتسرق كرامتي، علمني كيف أصطاد السمك ستشبعني مدى الحياة وتحافظ على كرامتي وانتاجيتي». فلا وجود للمؤسسات الخيرية في اليابان، كما ان الثقافة اليابانية علمت شعبها عدم قبول الأموال الخيرية، بل على كل فرد العمل ليحقق ذاته ويوفر حاجياته، في الوقت الذي يلعب بعمله وإنتاجيته دورا في خلق تنمية مستدامه. ولأوضح هذه الفلسفة ليسمح لي عزيزي القارئ ان أعرج على موضوع آخر. يلاحظ السواح الزائرون لليابان أن من يضيع منه شيء سيصله الى منزله، فسنويا تتسلم الشرطة اليابانية المليارات من الأموال الضائعة، وتستطيع ان توصل ثلثي هذه الاموال الى أصحابها، بينما يبقى الثلث من دون ان يطالب به أحد. وبحسب القانون الياباني، على الشرطة ان ترجع باقي هذه الاموال الضائعة التي لم يطالب بها أحد للأشخاص الذين وجدوها، وحينما تراجع الشرطة هؤلاء الأشخاص لكي يقبلوا هذ الأموال، فجميعهم وبدون استثناء يرفضون قبول هذه الاموال لاعتقادهم بانها ليست من حقهم. فلذلك خلقت الثقافة اليابانية اخلاقيات الاعتماد على النفس، ولعب دور في الانتاجية والتنمية المستدامة، ورفض قبول ثقافة العمل الخيري، بل توجه هذه الاموال في الأبحاث العلمية والطبية، مثلا في كشف علاجات جديدة للسرطانات. فلو كنا فعلا جادين في القضاء على الفقر، يجب أن نمكن الفقراء لكي يتعاملوا مع فقرهم. ولتمكين الفقراء، سيحتاجون الى التعليم والتدريب، وإلى تسليفهم قروضا بسيطة، ومساعدتهم لخلق تجارتهم الصغيرة. فمثلا بروفيسور الاقتصاد البنجلاديشي، محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام، قد مكن الفقراء من معالجة فقرهم من خلال توجيههم، وتوفير قروض صغيرة لتطوير تجارتهم الصغيرة، ولذلك بدأت تتوجه بنجلادش للتنمية المستدامة، وقد تكون مثلا يتحدى به مع قبول عام 2050، كما استطاع أكثر من مائة وخمسين مليون فقير في العالم التخلص من فقرهم من خلال القروض الصغيرة التي طوروا بها تجارتهم. الجدير بالذكر أن هناك حوالي ستة ملايين شركة صغيرة في اليابان. ويكرر البعض بأن سياسة الحماية الاقتصادية غير مقبولة في النظام الرأسمالي وفي اقتصاد سوق العولمة، فلنراجع ما كتبه المحلل السياسي الاقتصادي الأوروبي وليم بابف، قبل عقد من الزمن، في جريدة اليابان تايمز، تحت عنوان، زيادة تباين الدخل، محاكمة العولمة، يقول: «لقد اعترفوا مؤخرا في مؤتمر عالمي بالحقيقة الآن، بأن عولمة السوق تسببت في دمار كبير حينما استمع الرئيس الاسبق بلي كلينتون لأصدقائه في الوول ستريت وقرر تحرير الاقتصاد الدولي من الانظمة والقوانين»، كما نشرت جريدة الوول ستريت في نفس الوقت، بعنوان، نتائج غير متوقعة زادت العولمة درجة التباين في الدخل، تقول فيه: «إنه من المعروف أن ادم سميث، فيلسوف الراسمالية، قد أكد أهمية السلطة الاخلاقية للدولة على الاقتصاد. وكل ما يقال عن عولمة السوق بحرية، وبدون قيود، هي نظرية لا ترتبط بالراسمالية، بل مرتبطة بفلسفة الجشع. فالعالم، حتى الآن فيه الموارد الكافية لإشباع حاجيات سكانه، ولكن لا يستطيع إشباع جشعهم»، كما حذر الاقتصادي ديفيد ريكاردو، من أن سوق العولمة الحرة للقوى العاملة المتوافرة ستؤدي الى خفض الرواتب الى حد كبير، مما لن يكفي إلا للبقاء، ليس أكثر. وسيكون لذلك علاقة مضطردة مع الثورة الاجتماعية، وتزايد التطرف والعنف في المجتمعات الفقيرة، بل بدأت تبرز كنوع من الشعبوية في المجتمعات الغربية. وقد أكد الاقتصادي العالمي، بول فيتوسي، أن هناك طريقتين لتتعامل الحكومات مع الخلل الناتج من العولمة، وهي الحماية الاقتصادية، وتوافر الخدمات الاجتماعية للمواطنين. فحماية المصانع والشركات، والتي هي مصدر الثروة في البلاد، ومن خلال الانظمة والقوانين، للوقاية من القلق المترافق بالاستثمار، وتزايد القوى العاملة، وخاصة مع تطورات الذكاء الآلي القادمة، كما سيحتاج الى حماية القوى العاملة من البطالة وانخفاض الاجور، فبدونها سيقاوم الإصلاح وتقل الانتاجيه. وطبعا كل ذلك مهم جدا للمحافظة على الترابط الاجتماعي. وقد أثبت التاريخ في العالم الثالث، بأن النمو الاقتصادي مرتبط بدرجة الحماية التجارية والمالية. وقد أكد فيتوسي أن تحرر السوق سيكون كارثة على اقتصادات العالم النامي. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل من واجب العالم أن يحول سياسة الحرب على الإرهاب فقط إلى سياسة الحرب على الفقر، وقاية، والحرب على الإرهاب، علاجا؟ وهل سنحتاج إلى «راسمالية عولمة» مسؤولة اجتماعيا لكي نحقق ذلك؟ ولنا لقاء.

مشاركة :