لخصت لنا حنة آرنت، في كتابها تمارين في الفكر السياسي، أزمة التربية تأكيداً للمحاولات الخائبة التي قامت بها سلطات التربية لرأب الصدع، وكلما أخفق العقل الإنساني الحصيف، أو كف عن محاولة الإجابة، فنحن أمام أزمة. إن اختفاء «الحس المشترك» في هذه الأيام أصدق دليل على أزمة، وفي كل أزمة يهلك شيء من العالم، هو شيء مشترك بيننا جميعاً، ولما كان الطفل بحاجة إلى حماية من العالم، فإن مكانه التقليدي هو في الأسرة، التي يعود أعضاؤها الكبار يومياً من العالم الخارجي، وينعزلون في أمن حياتهم الخاصة بين أربعة جدران، هذه الجدران الأربعة التي يحيا الناس بينها حياتهم الخاصة، هي بمنزلة درع واقية من العالم، إنها تحيط بمكان آمن لا يستطيع شيء حي أن يزدهر من دونه، وهذا لا يصدق في حياة الطفولة فقط، بل في الحياة الإنسانية عامة. وصف إيريش فروم تناول سيغموند فرويد لـ«الاستياء في الثقافة» بربطها بما عبر عنه في فرنسا بـ«مرض» أو قلق القرن، أي الشعور بعدم السعادة والغرابة، فعندما ينشق الواقع إلى «إما وإما»، فإن ثنائية الرأي التي تحدث الانشقاق القوي في «إما وإما» في الأماكن التي يكبت فيها المدرك السلبي للواقع الفعلي وللخيال والوعي الذاتيين، ولهذا السبب ميّز فروم بين الضمير السلطوي، فهو صوت سلطة خارجية موجه نحو الداخل، أما الضمير الإنساني فهو رد فعلنا على نفسنا ذاتها، بل تحدث أيضاً عن «الاستلاب»، ومرض الحياة العادية، لا يعاش نكران الذات كعرض من الأعراض، التي يعانيها المرء، لكنه يقدم «عطباً اجتماعياً متعلماً» يتقاسمه الكثيرون، ويعتبر عادياً حين يعبّر «توافق الأنا» عن ظاهرة نفسية أو توافق فكرة أو شعور شخص ما مع أناه، لكن كارل يونغ يقول: يعلم الأطباء النفسيون جيداً جداً كيف يصبح كل منا ضحية عاجزة، لكن ليست جديرة بالشفقة، فلا يمكن التضحية بشيء للأبد، إذ يعود كل شيء في شكل جديد، وعندما تتم تضحية عظيمة يجب أن يتوافر لها جسد قوي وصحي، ليتحمل صدمة عودة ما ضحى به لذلك التشظي، أي سلسلة من الصُّدُوع النفسية، هي سر إبداع الفنان في إظهار كل أنواع العيوب على الشاشة، كالقسوة والأنانية والغرور وعقد النقص، ومحاولة جادة لطرح بعض الاضطرابات النفسية في مشاهد ومسلسلات، كما هو معتاد في شهر رمضان المبارك. أخيراً، لو وضعنا هذه المقاربة من التحليل النفسي لواقعنا المعاش، بعد أن أصبح تقنياً مفهوم «الجدران الأربعة»، عنواناً بارزاً للأسرة المستقلة، بل التي ينقسم فيها الفرد من دون حاجة إلى باقي أفراد أسرته، طالما الواقع الافتراضي يحقق لها التواجد الذاتي والإشباع النفسي، فالأطفال لم يعدوا «الجدران الأربعة» هاجساً للوحدة، فهم منغمسون بيّن الأجهزة الحديثة، التي باتت عنصراً مهماً في خفض مستوى الطفل دراسياً، وتلقي القيم والثقافة السلبية وحرمان الطفل منها سلاح ذو حدين، حيث المقارنة بين جدران الحداثة وجدران الدافع الدراسي تعود دائماً بفشلنا كآباء في جذب الأطفال نحو القراءة الجادة، فجلُّ همهم التخلص من أعباء الاختبارات والسنة الدراسية، أما الكبار، وعلى مواقع التواصل، فكان القفز على كل قيمنا وتراثنا نتيجة حتمية للكبت الذي عاشه البعض في زمن «الجدران الأربعة».. وشكراً..؟!. يعقوب عبدالعزيز الصانع@ylawfirm
مشاركة :