هذا هو اللقاء الثالث الذي تراجع فيه مقررات كلية الصبر، واليوم حديثنا عن مقرر الصبر على الطاعة، وقد يظن كثير من الطلبة أنه مقرر أسهل من بقية المقررات التي تقدمها كلية الصبر إلى طلبتها، ولكن الحقيقة غير ذلك لأننا إذا عملنا مقارنة بين المقررات الثلاث، فإننا سنجد أن مقرر الصبر على الطاعة أصعب من المقررين السابقين والسبب في ذلك أن الصبر على الطاعة فيه استمرار ومداومة وهذه من الأمور التي يستثقلها كثير من الناس بينما الصبر عن المعصية فيه انقطاع إذ على الإنسان أن يعاني في البداية، ثم يصير الأمر عنده عادة تساعد على ترك المعصية وعدم التفكير فيها، وأيضا الصبر على البلاء يجد فيه الإنسان المعونة في أن المصائب تبدأ كبيرة لا يتصور الإنسان أنه قادر على الصبر عليها، فإذا اعتادها صارت أمرا يسهل الصبر عليه، أما الصبر على الطاعة، فهو يتطلب من الإنسان المواظبة وعدم الفتور، ولأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعلم ما في الطاعة والاستمرار عليها من الصعوبة فأراد أن يسير ذلك على الإنسان فوجهنا وحذرنا من أن يبغض أحدنا إلى نفسه عبادة ربه سبحانه، فقال صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» رواه مسلم. «المتنطعون»: المبالغون في الأمور فخير للعبد ان يأتي من الطائعات غير الفرائض بالقليل الذي يطيقه خير له من أن يحمل نفسه على كثير لا يطيقه، ولذلك فالحذر من أن يلزم الإنسان نفسه بما لا طاقة له عليه، وألا يتمنى أمرًا ثم يعطي العهود والمواثيق على أنه سوف يفعل كذا وكذا، وهو لا يعلم أنه ساعة الوفاء بما تعهد به، هل هو قادر على إنفاذه أم لا! لقد ضرب لنا القرآن مثلا برجل جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسأله أن يدعو الله تعالى ليرزقه مالاً كثيرا ووعد إذا تحقق ذلك ليصدقن ويكن من المحسنين، فلما استجيب دعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) له وجاء وقت الوفاء بما عاهد الله تعالى ورسوله عليه فنهته نفسه الأمارة بالسوء عن ذلك الوفاء، قال سبحانه: «ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون(76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78)» التوبة. إن الله تعالى لا يكلف الناس فوق ما يطيقون، فإذا أمركم بطاعة فأتوا منها ما استطعتم، أما إذا نهاكم عن معصية فلا تأتوها، ويكفيكم في المعصية ألا تأتوها، أما في الطاعة فقد خفف عنكم ولم يسألكم ما هو فوق طاقتكم فليس للكثرة أهمية عند الله تعالى، فقد سبق درهم واحد مائة ألف درهم، وتبسمك في وجه أخيك صدقة تثاب عليها، بل إماطة الأذى من الطريق صدقة بل كفك أذاك عن الناس صدقة ومجالات الإيمان كثيرة، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه. يا الله.. ان طرق الخير كثيرة وليس على الإنسان أن يحمل نفسه ما لا طاقة له عليه بل عليه أن يقدم ما يستطيع وألا يكلف نفسه ما يشق عليه، وها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشجعنا على عمل الخير دون أن يشترط علينا قدرًا معينا أو لونًا معينا من ألوان الخير، يقول: أما بعد فإن الله أنزل في كتابه: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة.. (إلى آخر الآية) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد (إلى قوله).. هم الفائزون، تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بُره، تصدق رجل من ثمره، من شعيره، لا تحقرن شيئا من الصدقة ولو شق تمرة» (رواه مسلم). وقد يتساءل البعض في تعجب: وما يصنع شق تمرة إنها لا تسمن ولا تغني من جوع؟ هذا التساؤل من الممكن أن يكون مقبولاً لو أن المعاملة بين الناس، ولكن الإنسان هنا يتعامل مع الله تعالى الغني ذي القوة المتين الذي يتناول شق التمرة ويربيه كما يربي أحدنا فلوه – أي الحصان الصغير – حتى تكون هذه التمرة أو شقها مثل جبل أحد في الحسنات، وأنها لتزن في موازين العبد يوم القيامة أكثر من مئات الألوف من التمرات. إنه سبحانه الكريم الذي لا يكلف عباده ما لا يطيقون، فهو جل جلاله حين أمرهم بالعمل والحركة والسعي في قوله تعالى: «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» (التوبة/105). إنه سبحانه لم يلزمنا بالنتيجة لأنه جل جلاله يعلم أن تحقيق النتائج قد يتطلب إمكانات وجهودا ليست في ملك الإنسان ولكن يكفيه أن يعمل ويخلص في العمل ويدع أمر النتائج لله سبحانه فهو جل جلاله قادر على أن يحققها، وإن لم يحققها لحكمة يريدها، فيكفي الإنسان شرفًا ورفعة أن عمله محل رعاية الله ورسوله والمؤمنين، وهذه الرعاية سوف تحمله على الإخلاص وبذل الجهد، وهذا يكفي.
مشاركة :