إن كان من كلمة تستحق تقبيل الجبين فهي ( الرحمة )، ذاك الشعور الذي يُسكب في القلوب الرقيقة، والنفوس السامية، والأرواح الموفقة السعيدة كما جاء في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – “لا تُنزع الرحمة إلا من شقي”. وامتدح الله أهل الميمنة بقوله { وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ }، قال الطاهر ابن عاشور– رحمه الله -: “وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشهوة النفسانية وذلك من الصبر، والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى: { رُحَماءُ بَيْنَهُمْ } فالتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة”. والراحمون أولى الناس برحمة أرحم الراحمين بنص حديث أسامة بن زيد – رضي الله عنهما -: ” إنما يرحم الله من عباده الرحماء”، وحديث جرير بن عبدالله– رضي الله عنه -: ” لا يرحم الله من لا يرحم الناس”. وكل ما نراه من مظاهر رحمة الخلق بعضهم ببعض هي رحمة واحدة فقط، نص على ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – “جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه”، وفي رواية عطاء – رحمه الله -:”فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها ” وفي حديث سلمان- رضي الله عنه -: فيها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض “. فرحمة الله بالخلق أوسع من أن تُحيط بها عقولهم، فانظر إلي آثارها في كل التفاصيل والأحوال .. وأدق الأمور سترى عجباً.. رحمة ربي تسع قصورَ الأحلام الرملية التي مسحتها أمواج الواقع. رحمة ربي تُخَدّر الأوجاع فلا يُحَسُ منها وخزا. رحمة ربي تجبر النفوس المكسورة وتلملم شتاتها المبعثر. رحمة ربي تنفض غبار الهم عن النفوس المكدودة. رحمة ربي تطوق القلق الذي يحاول أن يطفئ قناديل الأمل في الأرواح بين فينة وأخرى. رحمة ربي تلم شعث النفوس المتشاحنة والقلوب المفرقة، وتوحد الصف وتجمع الكلمة. رحمة ربي تُعز المقهور، وتنصر المظلوم . رحمة ربي سلوان قلوبنا في فَقْد أحبابنا تضيء قبورهم نوراً . رحمة ربي تتغمد العبد حتى تدخله الجنة. ومن آثار رحمة الله: إنزال المطر، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتشريع الحدود، وقَبول التوبة، والابتلاء بالمصائب المكفرة. ورحمة الله أوسع من كلّ الذنوب، والمحروم من ينتظر أسباب الرحمة وهو يُقيم على أسباب العذاب، فهذا منطق من يخادع نفسه وإلا فرحمة ربنا قريبة ممن اجتهد في الطاعة وأحسن العمل {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. ورحمة ربي تشمل كل شيء { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} فمَن أراد رحمته فليتعرّض لها، وليلزم هدي نبيه صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ آية تُسكب السكينة في القلوب .. وسعت كل لحظة فرح .. وكل زفرة حزن .. وكل وخزة ألم .. وكل دمعة هم .. وكل نبضة إنجاز .. وسعت كل شيء بأدق التفاصيل. ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ قال قتادة والحسن – رحمهما الله – : “وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة “. ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ هل تظنُّه استثناكَ منها ؟! حاشاهُ ربي أن يُقنّط راجياً، أو يرد يدي عبده صِفراً .. لكننا قوم نستعجل استمطار رحمته .. ثق بـالرحمن الرحيم، وتمثل قول الشاعر: سارٍ وبردُ الرّضا ينصبّ في كبدي عالٍ على قلقي.. عالٍ على أرقي في كلّ منطلقٍ.. في كل معترك في كل منقلبٍ: تعويذةُ الفلقِ سارٍ.. أمدُّ له كفي وأمنيتي من طلعةِ النور حتى مغرب الشّفقِ “لم يخلق الله من خلقٍ يضيّعه” الله أكبر، يا دوّامة القلقِ. أبرار بنت فهد القاسم
مشاركة :