مصدر الصورةIFC Films عندما عُرِض فيلم "المنزل الذي شيّده جاك" للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي الدولي، انسحب العشرات من الأشخاص من قاعة العرض من فرط الاشمئزاز والتقزز، ورغم أنه بوسعي بالقطع تفهم الأسباب التي حدت بهم للقيام بذلك، فإنني كنت سعيداً بالبقاء في القاعة حتى آخر ثانية من هذا العمل المذهل. وبرغم أنه يمكن وصف الفيلم بأنه كوميديا قاتمة سوداء ذات طابعٍ مروعٍ، فإن الأكثر دقة أن نقول إنه بالإضافة إلى كون العمل يتسم بكل هذه الصفات مجتمعة، فإنه كذلك من تأليف وإخراج الدنماركي لارس فون ترير، وهو ما يعني أنه أطول مما يجب ومفعمٌ بالمبالغات؛ مملٌ في بعض الأحيان وصادمٌ في أحيانٍ أخرى. لكنه يظل بلا ريب جريئاً ومُحفِزاً ومثيراً للحماسة، على نحوٍ لا يُقْدِمُ عليه سوى مخرجٍ معروف بالتحريض واستفزاز المشاعر مثل فون ترير. ناتالي بورتمان تتألق في فيلمها الجديد "إبادة"مارغو روبي "تستحق ميدالية ذهبية" عن دورها في "أنا تونيا""كل أموال العالم": قصة حقيقية لجد ثري رفض دفع فديه لحفيده بنية الفيلم عبارة عن حوارٍ بين شخصٍ مهووسٍ بالقتل وسفك الدماء يُدعى جاك (يقوم بدوره مات ديلون)، وآخر يجري معه مقابلةً دون أن يظهر على الشاشة، يحمل اسم فيرج (يجسد شخصيته برونو غانتس). ثمة تلاعبٌ لفظي بالكلمات هنا - بالمناسبة - لا أعتزم إفشاء سره. خلال هذه المقابلة، يخبر جاك محاوره عن 5 "حوادث" انتقاها مما شهدته مسيرته الطويلة مع جرائم القتل، وهي المسيرة التي يبدو أنها جرت على مدار عقد السبعينيات من القرن العشرين في مدينةٍ أمريكيةٍ غير معروفة. لكن لتضع في الاعتبار هنا، أن لدى جاك ذكريات من فترة طفولته، عن عمال زراعيين يستخدمون المناجل في المروج، وهو ما لا يجعل المرء واثقاً للغاية، من الزمن الذي تدور فيه الأحداث، أو حتى الدولة التي تتخذ منها مسرحاً لها.مصدر الصورةGetty ImagesImage caption الممثل مات ديلون (من اليسار)، والمخرج لارس فون ترير، والممثلة أوما ثورمان في مهرجان كان 2018 وفي القسم الأول من العمل، الذي يتسم بأنه أكثر طرافة وتسلية من باقي أقسامه، نرى جاك وهو يقود شاحنته الصغيرة المقفلة (الفان) حمراء اللون، على طريقٍ يمضي وسط إحدى الغابات، عندما تلوح له سيدةٌ مختالة (تلعب دورها بحيوية وظرف الممثلة أوما ثورمان)، وذلك لكي يقلها في طريقه بعدما فرغ الهواء من أحد إطارات سيارتها. وبقدر ما كان جاك مُتمنعاً عن توصيلها - كما طلبت - إلى مرآبٍ للسيارات، كانت هي مصرةً على ذلك دون أن تأبه لرفضه. وبمجرد أن جلست إلى جواره، أصرت على أن تمازح هذا الشخص - الذي تعرفت عليه للتو - بالقول إنه ربما يكون قاتلاً متسلسلاً. وبعد هذا اللقاء المفعم بالمفارقات؛ الذي يعطي جاك فكرةً عما قد يكون عليه شعور المرء عندما يقتل ويسفك دم غيره، نرى هذا الرجل وهو يُزهق أرواح ضحايا أبرياء آخرين، سواء عبر خنقهم أو طعنهم أو إطلاق الرصاص عليهم، قبل أن ينهمك في ترتيب جثثهم، وكأنها دُمي بشرية من تلك التي تُعرض عليها الأزياء في واجهات المتاجر، واضعاً إياها في وحدة تخزينٍ للمجمدات إلى جانب أرففٍ مليئةٍ بفطائر البيتزا المُجمدة. في إحدى المرات، نراه وهو يدخل منزلاً متظاهراً - على نحوٍ غير مُقنع - بأنه أحد رجال الشرطة. وفي مرةٍ أخرى، يُكْسِبُ هذا الرجل معنى جديداً لعبارة "رحلة صيدٍ وقنصٍ عائلية"، وفي ثالثة يُهين شابةً يُطلق عليها اسم "مغفلة" (تقوم بدورها الممثلة رايلي كيو بأداءٍ يضفي، على نحوٍ مفاجئٍ، لمسةً إنسانيةً ما على فيلمٍ تحفل كل لحظاته الأخرى بالقسوة). ويزعم بطل الفيلم أنه يختار هذه القصص والحكايات "عشوائياً"، لكن محاوره لا يتفق معه في هذا الشأن، ويرى أن جاك دائماً ما يحاول أن يجعل نفسه يبدو بارعاً وذكياً، بينما تبدو النساء غبيات. وبجانب تضمين فون ترير الفيلم تلميحاتٍ لأعمالٍ سابقةٍ له أو لسمعته كمخرجٍ تثير أفلامه الجدل دائماً، يطل في فيلم "المنزل الذي شيّده جاك" من نافذة أفلامٍ مثل "صمت الحملان"، و"Se7en" (سبعة)، وكل هذه الأعمال التي تقدم القتلة المتسلسلين، على أنهم أشخاصٌ مثقفون متحضرون ذوو عقليات منظمة وقادرون على التخطيط والتدبير. فرغم أن "جاك"، كما يظهر في الفيلم، يحسب أنه ينتمي إلى هذا الطراز، وينهمك في الحديث المكرر الرتيب عن الأسباب التي تجعله يرى أن جرائمه ترقى إلى مرتبة الفن، كما يُطلق على نفسه اسم "السيد دهاء"، فإن المخرج يوضح بجلاء أن "جاك" ليس سوى أحمق في واقع الأمر. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption اشتهر المخرج لارس فون ترير بأفلامه المثيرة للجدل ويمكن القول إن ديلون - بنظارته عريضة الإطار وبوجهه المسطح كما اللوح الذي يتشقق بفعل شعوره بحيرة وارتباك بليديْن - يبرع بشدة في تجسيد شخصية جاك القلق المنزعج، الشخص المتخبط المصاب بمرض عصبي، الذي ينجح في قتل أكثر من ستين شخصاً، فقط لأنه كان محظوظاً بصورة غير طبيعية، ولأن الشرطة كانت تفتقر إلى الكفاءة بشكل غير طبيعي كذلك. وربما يُعزى ذلك أيضاً إلى أن العالم هو في جوهره، بقعةٌ قاسية القلب لا تعبأ بأحد. ومع ذلك، يحاول جاك التأكيد على ما يراه مؤهلات فكرية وعقلية يتمتع بها، من خلال إلقاء محاضرات حافلة بالاستطرادات حول مسائل مثل تصميم قاذفات القنابل الألمانية من النوع المعروف باسم "القاذفات الانقضاضية"، ودور عملية التعفن والانحلال في إعداد النبيذ الذي يُحتسى بعد تناول الطعام، بجانب الأغراض الفنية للفظائع والأعمال الشنيعة، وهو موضوعٌ يتم شرحه وضرب أمثلةٍ عليه، من خلال الاستعانة بمشاهد من أفلامٍ سبق لـ"فون ترير" نفسه إخراجها. ويشعر فيرج - على الشاشة - بالضجر والضيق من تأملات جاك وتصوراته ذات الطابع المدرسي، وهو ما سيشاطره فيه بالتأكيد الكثير من المشاهدين أيضاً. ورغم أن الفيلم يتضمن العديد من المشاهد ذات الطابع الصادم والمكشوف، لتعذيب النساء بشكلٍ مفعم بالكراهية، ولتشويه أجسادهن وبتر أعضائهن كذلك، فإن بمقدوري القول إنني شاهدت من قبل، ما هو أسوأ منها بكثير في أفلامٍ رعب وإثارة أمريكية، من تلك المُصنفة على أنها تنتمي إلى تيار السينما السائد في هوليوود. كما أنني أظن أن عدد من سيأنفون من مشاهدة العمل، بسبب المحاضرات الطويلة التي يتضمنها على لسان بطله، سيفوق أولئك الذين سينتابهم الشعور ذاته، بفعل لقطات التعذيب والقسوة المفرطة والدماء المسفوكة جراء العنف والقتل. طيلة مدة الفيلم لم أنظر إلى ساعتي سوى مرة أو مرتين، وبقيت غالبية فترة عرضه، مغموراً بمشاعر تحدٍ ورعب واستمتاعٍ، نجمت كلها عن الأسلوب التفكيكي العابث الذي استخدمه لارس فون ترير لتقويض أركان فئة أفلام القتلة المتسلسلين برمتها. كما كنت مأخوذاً كذلك باستعراضه الفني العنيد وبراعته الشديدة في استخدام أدواته في الإخراج السينمائي، فالعمل ينتهي ببعضٍ من المشاهد المجازية بديعة الجمال، التي كان من شأنها أن تصبح اللقطات الأكثر إمتاعاً، في أي فيلم هوليوودي من فئة "الفانتازيا". ورغم أنك ربما تستسلم لإغواء مغادرة قاعة العرض، قبل أن تصل إلى هذه المشاهد في نهاية الفيلم، فإن هذا لن يمنع من أنك ستظل تتحدث عن ذاك العمل - بالقطع - بعد ذلك. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Culture .
مشاركة :