كان فيلم “الحد الفاصل” Border الذي فاز بجائزة أفضل فيلم في مسابقة قسم “نظرة ما” بمهرجان كان الأخير، فيلما غريبا وفريدا ليس له مثيل من بين كل أفلام المهرجان، بل ويمكن القول أيضا إنه عمل غير مسبوق رغم بعض التشابه البسيط في إحدى أفكاره، مع “الرجال إكس”، وقد حصل الفيلم على الإجماع بتفوقه الفني. يمتلئ الخيال الشعبي الاسكندنافي بالكثير من قصص الكائنات الغريبة التي تسكن الأرض، وتحاول التواصل مع الإنسان أو السيطرة عليه أو الإضرار به وربما الانتقام منه أيضا، يمكنها أحيانا التخفي والاختلاط بالإنسان، وتظل تتمتع بقوة أو قدرات خاصة، قد تسبب الكثير من الارتباك والفوضى. إنها كائنات تسكن منطقة تقع بين الأحلام والواقع، بين الهواجس والكوابيس الليلية وبين الحياة الأرضية الطبيعية، وحول هذا “الحد” الفاصل بين العالمين، وأهمية الاختيار بين الانتماء لعالم الخير أو عالم الشر، يدور فيلم “الحد الفاصل” Border، وهو الثاني لمخرجه الدنماركي -من أصل إيراني- علي عباسي، ومن الإنتاج المشترك بين السويد والدنمارك. الفيلم مقتبس بتصرف عن رواية الكاتب السويدي جون أفيد لينكفيست “دع الشخص الصحيح يدخل” Let the Right One In التي أصبحت من أكثر الأعمال رواجا وقت صدورها في السويد عام 2005، ويصفها النقاد بأنها تجمع بين “الرومانسية والخيال المرعب والواقعية الاجتماعية”، والحقيقة أن الفيلم يمزج بين هذه الأساليب كلها ويضيف إليها الكثير من الصور المستقرة في الخيال الشعبي الاسكندنافي عن “الكائنات غير الإنسانية”، كما يستخرج منها مجازا عن العلاقة المرتبكة بين الاسكندنافي، أو بين الإنسان عموما، و”الغريب” أو “الآخر”. كائن غريب بطلان لا ينتميان للجنس البشري بطلان لا ينتميان للجنس البشري يبدو الفيلم للوهلة الأولى أشبه بدراما الرعب، لكنه سرعان ما يكتسب الكثير من المعاني الإنسانية الكبرى حول أفكارنا المسبقة عن الآخر، وكيفية تعاملنا مع من نظنه مختلفا عنا، كما يتساءل الفيلم: هل يمكن للكائنات المتناقضة في تكوينها أن تنتمي للعالم المتحضر بمفاهيمه الإنسانية أم أن من الأفضل لها أن تعود إلى عالمها الذي تحكمه قوانينه الخاصة، وهل الغريزة أقوى من المكتسب؟ وكيف يمكن أن نعرف ما يخفيه المرء، وأن شكله الخارجي لا يعبر عما في داخله؟ والأهم هنا ونحن بصدد تناول عمل سينمائي هو الأسلوب: الصورة والضوء والمؤثر الخاص والجو العام والأماكن المختارة بعناية بحيث تضفي على الفيلم طابعا تغريبيا، أو تجعله يبدو كما لو كان يدور بين الواقع والخيال، في سياق ما يعرف بـ”الواقعية السحرية” طبقا لما يراه مخرجه، ويبرز بشكل مدهش تعاون المخرج مع مدير التصوير ومصممي الديكور والممثلين. ويقوم السيناريو الذي اشترك في كتابته المخرج مع إيزابيلا إيكلوف ومؤلف الرواية الأصلية، على شخصيات محددة المعالم مع بعض التفريعات التي تخدم الشخصية الرئيسية وتعمقها وتدفع الأحداث إلى الأمام من خلال خيوط، متعددة، لكنها تصب كلها في اتجاه واحد. هناك أولا “تينا”، عندما تراها للمرة الأولى ستدرك أنك أمام “كائن” غريب كل الغرابة، فهي ضخمة، طويلة، لديها وجه منتفخ يمتلئ بالبثور والقرح، أسنانها البارزة مصبوغة باللون الأصفر، وجلدها ممتلئ بالوشم ولديها أيضا كما سنعرف، ندبة قديمة في أسفل ظهرها. المخرج علي عباسي ينجح في المحافظة على الترقب والإثارة ودفع المشاهدين للتساؤل المخرج علي عباسي ينجح في المحافظة على الترقب والإثارة ودفع المشاهدين للتساؤل وهذه المرأة الغريبة الصامتة تعمل في شرطة جمارك المطار، فهي تتمتع بحاسة شم خارقة، تجعلها تمتلك القدرة على معرفة ماذا يخفي أي شخص من شرور وممنوعات سواء في حقائبه أو ضميره. تينا تقف مع زميلها، تراقب القادمين، تتشمم وهي تحرك أنفها وشفتيها كالكلب، تحدق في كل من يمر أمامها، تستوقف هذا أو ذاك، ومع تفتيش الحقائب اليدوية قد يعثر على أشياء ممنوعة (كمية ضخمة من الخمور يحملها مراهق) أو صور إباحية للجنس مع الأطفال يحملها رجل، ومن هنا تستعين بها الشرطة في تعقب عصابة يشك أنها تختطف الأطفال وتعتدي عليهم، وهو أحد الخيوط الواقعية في الفيلم. تينا تقيم مع صديقها رولاند في كوخ خشبي على حافة الغابة بالقرب من البحر خارج بلدة سويدية ساحلية، لكن رولاند لا يلقي بالا إليها فهو أكثر اهتماما بكلابه الثلاثة واحتساء البيرة ومشاهدة التلفزيون، وعندما يحاول ذات ليلة ممارسة الجنس معها ترفض. أما والد تينا العجوز فهو يتفادى الحديث عن الماضي مع تينا بدعوى أنه لا يتذكر جيدا، ربما كان يخفي سرا. وتلمح تينا ذات يوم رجلا يمر عبر حاجز الجمارك بالمطار يحمل حقيبة، تتشمم، تشعر بوجود شيء غريب يخفيه هذا الشخص واسمه فور ‘Vore’، وبتفتيش حقيبته تعثر فقط على أنبوبة بداخلها مجموعة كبيرة من يرقات إحدى الحشرات. لكن الأهم أن فور كثير الشبه بتينا نفسها، فهو مثلها غليظ الملامح، متغضن الوجه، ضيق العينين، وهي تشعر بوجود شيء ما يخفيه، لكنها تشعر في الوقت نفسه بانجذاب غريب نحوه. ومع تطور الحبكة يذهب فور ليستأجر غرفة في منزل تينا الخشبي، تقترب تينا أكثر فأكثر من فور الذي يعلمها كيف تأكل مثله الصراصير والحشرات، تسير تينا وحدها في الغابة ليلا، تأنس لها الذئاب وغيرها من الحيوانات المفترسة، تبدو وكأنها قد توحدت مع الطبيعة. الانتقام من البشر يعترف لها فور بأن كليهما لا ينتمي للجنس البشري، وأن الإنسان هو من أرغمهما على العيش كبشر بعد أن قضى على كل علاقة لهما بالماضي، أي أباد القبيلة التي ينتميان إليها، لذلك فهو يستخدم الإنسان من أجل تدمير الإنسان. تلح تينا على والدها “المفترض” لكي يكشف لها عن مصير والديها الأصليين، يعترف لها في لحظة شعور بالشفقة بأنه تبناها مع زوجته، وكان غرضهما طيبا، وبأن والديها دفنا في مكان ما، في مقبرة جماعية لتلك المخلوقات، تشعر هي بالغضب الشديد، لقد تيقنت من صحة ما قاله لها فور، تنهي علاقتها برولاند، تطرده وتلقي بجهاز التلفزيون في الخارج، لقد بدأت تدرك حقيقة أصلها وماضيها. فور الذي يرغب في الانتقام من البشر يقوم بخطف الأطفال وتحويلهم بفعل قوة ما لا ندرك كنهها، إلى كائنات مماثلة له، وهو يرتبط بجماعة تمارس تلك الطقوس الشريرة سرا على نحو يذكرنا بفيلم بولانسكي “طفل روزماري”، ولدى فور ندبة أسفل الظهر مثل تينا، هي ما تبقى من أثر لذيل تم استئصاله. ولكن بينما تغلغل الشر في فور، تميل تينا للخير، ترفض العنف واختطاف الأطفال، فهل ستستمر هكذا، أم ستجد نفسها في نهاية المطاف راغبة في التوحد مع من ينتمي إلى نوعها نفسه لتحقّق الحرية التي تنشدها؟ الرعب الكامن بين الحقيقة والخيال الرعب الكامن بين الحقيقة والخيال هذه هي الخطوط العريضة للفيلم الغريب الذي يشمل مشاهد بديعة مرعبة للكائنين الغريبين وهما يتجردان من ملابسهما ويسبحان في البحيرة، ثم يمارسان الجنس للمرة الأولى مع النوع نفسه، وهي مشاهد فيها من الغرابة بقدر ما فيها من الرعب بسبب التكوينات البصرية البديعة التي خلقها المصوّر ومسؤول المؤثرات الخاصة، وتصطبغ الصورة بالضباب مع مسحة من زرقة الليل، والكثير من الأبخرة والظلال وكتل الظلمة التي تحيل الغابة حيث يلتقي الكائنان الغريبان، إلى عالم سحري. ينجح علي عباسي في المحافظة على الترقب والإثارة ودفع المشاهدين للتساؤل طيلة الوقت عمّا سيكشف عنه المشهد التالي، ورغم الخيوط الفرعية كعصابة اختطاف الأطفال، العلاقة مع الأب، العمل مع الجمارك والتعاون مع الشرطة.. الخ، إلاّ أن الفيلم لا يحيد قط عن مساره الرئيسي، وينجح المخرج في إكساب الموضوع دلالات أكثر عمقا من مجرد الغرابة والسحر الخاص المستمد من قصص الخيال الشعبي “الشمالي” في اسكندنافيا، يقرب المشاهد إلى الشخصيات الغريبة، كما يقربها من العالم الواقعي اليوم وما يحدث فيه من انتهاك لبراءة الأطفال. ويجعل في النهاية التحول الشرير الذي يحدث كما لو كان لعنة أو ثمنا باهظا يتعين على البشرية أن تدفعه بسبب ممارساتها القذرة، واستبعاد الآخر، وإبادة الأجناس بدعوى الحفاظ على المدنية. ولا شك أن عنصر التمثيل هو الذي يجعل للفيلم كل هذا التأثير القوي ويجعله يرسخ في الذاكرة. هناك أولا الممثلة السويدية البارعة إيفا ميلاندر التي قامت بدور تينا بحيث ذابت تماما في الشخصية وأصبحت قادرة على التعبير بالوجه والفم والعينين والشفتين، في شتى المواقف المختلفة، تنتقل بين المشاعر المختلفة ما بين الحب والخوف والقلق والغضب والرقة والشفقة، وكانت تخضع يوميا لمدة أربع ساعات أمام عملية الماكياج التي اقتضت تركيب قناع من السيليكون فوق وجهها وتشويه الأسنان وجعل الجلد يبدو متغضنا ممتلئا بالحفر والندوب. وقد خضع زميلها الممثل الفنلندي إيرو ميلينوف الذي قام بدور فور، لعمليات مماثلة، وأجاد دور ذلك الكائن القادم من الخارج الذي وجدت فيه تينا الشريك المثالي الذي يمكنها التماثل والاندماج معه، ويبقى في النهاية اللغز الأكبر.. لغز عالمنا الذي يمتلئ بالأسرار!
مشاركة :