«استخدامات السحر» لبرونو بتلهايم

  • 5/24/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، ظهر كتاب لعالم سيكولوجيا الصغار، النمسوي الأميركي برونو بتلهايم نشر بلغته الإنكليزية الأصلية بعنوان «استخدام السحر» لينشر في الفرنسية ويشتهر في أنحاء عدة من العالم تحت عنوان «سيكولوجيا حكايات الجن». ومن يوم صدوره، اعتبر هذا الكتاب رئيسياً ورائداً في مجاله الى درجة أنه حين حدث بعد رحيل بتلهايم أن طلع الباحث آلان داند بنظرية تقول إن بتلهايم استعان في كتابه بمقاطع طويلة جداً من كتاب للباحث جوليوس هيشير صدر قبل كتابه بثلاث عشرة سنة، لم يأبه لذلك أحد. > مهما يكن من أمر يظل كتاب بتلهايم رائداً ومرجعياً حتى الآن بالنظر الى أنه كشف الكثير من «ألغاز» العلاقة بين تلك الحكايات الموجهة للأطفال أصلاً، ومسائل بالغة الأهمية تتعلق بسيكولوجيا الصغار. ولنذكر هنا انه في هذا الكتاب «الموجّه أصلاً للبالغين لكي يفهموا مع أية مواضيع يتعاملون»، ينطلق من فكرة أساسية مفادها أن حكاية الجن ليست سوى مرآة سحرية تعكس الكثير من سمات عالمنا الداخلي وتصف الخطوات التي يتطلبها عبورنا من مرحلة ما - قبل - النضوج الى سن البلوغ. وهو يرى أن أولئك الذين يغوصون في حكايات الجن تصبح الحكاية بالنسبة إليهم أشبه ببحيرة هادئة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعكس صورتنا. غير أن الحكاية سرعان ما تكشف لنا أن في خلفية ذلك السكون عصفاً داخلياً يستبد بأرواحنا ما يساعدنا على إدراك الطريقة التي يتعيّن علينا أن نعيش بها سلامنا مع العالم الخارجي ومع ذواتنا وتكون تلكم هي مكافأتنا على صبرنا والجهود التي نبذلها في الحياة. > لقد حلل بتلهايم عبر عدد من الحكايات التي اشتغل عليها بشكل خاص (مثل «بلانش نيج» و«الحسناء والوحش» و«سندريللا»....)، المحتوى التحليل - نفسي للحكايات مركزاً بشكل أساسي على عدد من التيمات الكبرى التي كثيراً بل دائماً ما اشتغل عليها كبار المحللين النفسيين حتى في ما يتعلق بعالم الكبار، مثل عقدة أوديب والصراع التنافسي بين الإخوة... هادفاً الى أن يبرهن عبر ذلك على الكيفية التي تشتغل بها تلك الحكايات في تعاملها مع ضروب المعاناة التي يعيشها الصغار حيث تساهم بشكل أساسي في تعويضهم المسبق على ما سوف يعيشونه من معاناة تسبق مباشرة وصولهم الى سن النضج. وفي هذا الإطار، يبدو لافتاً الى حد كبير مقارنة بتلهايم بين نسخ متعددة من كل حكاية على حدة (نسخة للأخوين غريم مثلاً مقابل نسخة لشارل بيرو وأخرى لأندرسون من الحكاية نفسها) مبيّناً ارتباط كل نسخة بذهنية زمنها وبالتطور الذي كان قد أصاب كل مرحلة زمنية في علاقتها مع سيكولوجيا الصغار. > بقي أن نذكر هنا أن برونو بتلهايم، الى اهتمامه بسيكولوجيا الصغار كان من المهتمين الكبار بأحوال الأسرة والتربية الحديثة إذ نقرأه يقول مثلاً: «إنني أعتقد في الواقع، أن الأسرة المعاصرة لنا باتت غارقة في نوع من اللاأمان. لقد كانت التبدلات الاجتماعية في الحقبة الأخيرة، متعددة وعصية على التوقع. خذوا مثلاً مسألة الأم التي تعمل خارج المنزل. في غيابها عن البيت لا يمكن لأحد أن يعرف حقاً ما الذي يتعين فعله للطفل. في فرنسا، هناك نظام دور الحضانة، منظم ومزدهر، ولكن هل تعتقدون حقاً أن دار الحضانة يمكنها أن تحل، في تربية الطفل، محل الأم والبيت العائلي...». هذا الكلام الذي قد يبدو، للوهلة الأولى، رجعياً في نظر الكثير من مفكري الحداثة ومن مناضلات «حركة تحرير المرأة» لم يقله شيخ معمّم، أو مفكر ينتمي الى قرون مضت، بل قاله، وفي واحد من آخر الأحاديث الصحافية التي أدلى بها قبل رحيله عام 1990 برونو بتلهايم، عالم النفس الذي عرف على نطاق عالمي واسع، وكان من كبار الأساتذة الذين اشتغلوا في القرن العشرين على نفسية الصغار وعلى قضايا التربية، وعرف خاصة من خلال عدة كتب ذاع صيتها وترجمت الى عدد من اللغات ابرزها «استخدامات السحر» الذي يعتبر كما أشرنا، في مجاله، أهم مرجع خطه قلم في القرن العشرين. > والحال ان الفقرة التي أوردناها أعلاه قالها بتلهايم بعد ان عاش تجربة امتدت عقوداً من السنين في مجال التعاطي مع قضية وذهنية الأطفال، تجربة أسفرت عن كتب ودراسات عدة جعلت البعض ينظر الى بتلهايم على انه فرويد القرن العشرين. وبتلهايم، ولد على اي حال في فيينا في 1903، اي في العام الذي كان يشهد ذروة انتصارات فرويد في مجال التحليل النفسي، وذروة خروج النفس من وصاية «علم النفس» الى رحابة وواقعية «التحليل النفسي». > إذاً، ولد برونو بتلهايم في فيينا، التي درس في جامعتها وحصل على شهادة الدكتوراه منها في 1938. ولكن فرحته بالدكتوراه، في ذلك العام لم تكتمل، اذ سرعان ما رمى به النازيون في معسكرات الاعتقال متنقلين به بين داشو وبوشنفالد، وكاد يكون مصيره القتل، كما روى بنفسه اكثر من مرة، لولا معجزة ما أدت الى إطلاق سراحه في العام التالي، 1939، اي عام اندلاع الحرب العالمية الثانية، فسارع بالهجرة الى الولايات المتحدة الاميركية. وهو منذ ذلك الحين بات يعتبر اميركياً وراح يكتب معظم كتبه ودراساته بالانكليزية. وكان حال وصوله الى الولايات المتحدة قد التحق بمركز تابع لجمعية البحث التربوي في جامعة شيكاغو. ثم بعد ذلك بسنوات قليلة، أصبح مدرساً للتحليل النفسي في كلية روكفورد (1942-1944)، وكان من شأنه ان يبقى على ذلك الحال باحثاً جامعياً مرموقاً، انما محدود الشهرة، لولا انه نشر في 1943 دراسة بعنوان «السلوك الفردي والجماعي في المواقف القصوى» قرئت على نطاق واسع وجرى نقاشها لما فيها من آراء جديدة ومفاجئة، بخاصة أن بتلهايم أسس دراسته على ملاحظاته وتجاربه الشخصية التي عاشها في معسكرات الاعتقال النازية، فكان بهذا أول عالم يخضع مثل تلك التجارب للدراسة العلمية ويحلل آلية القمع، وردود الفعل الجماعية في معسكرات الاعتقال، بعيداً من الخطاب السياسي، والدعاوة. > منذ ذلك الحين لم يعد بإمكان أي شيء ان يقاوم صعود برونو بتلهايم العلمي. وهكذا نجده يعيّن في 1942 أستاذاً مساعداً لعلم النفس في جامعة شيكاغو، كما عُيّن في الوقت نفسه رئيساً لمدرسة لفحص قلق الطفولة تابعة للجامعة نفسها. وهناك في تلك المدرسة عاش بتلهايم احتكاكه الواسع والأساسي مع المشكلات العاطفية والذهنية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و14. وكان صلب عمله يدور من حول الأطفال «المتخلفين» عقلياً. وعند بداية سنوات الخمسين راح برونو بتلهايم يوسّع من دائرة اهتماماته العلمية في مجال تطبيق نظرياته حول الطفولة ومشكلاتها على المعضلات الاجتماعية المتعلقة بتربية الأطفال انفسهم. وفي تلك الآونة اشتهرت له دراسات عدة راحت تترجم الى العديد من اللغات، وأشهرها في ذلك الحين «الحب وحده لا يكفي» (1950) الذي أثار ضجة كبرى في عالم التربية. على الدوام كان عمل برونو بتلهايم يتحلق من حول الكشف عما يمكن فعله من اجل إزالة أسباب المعاناة العاطفية والقلق لدى الاطفال الذين يعانون ذلك، ومساعدتهم على العمل ضمن طاقاتهم الخلاقة وضمن اطار مجتمع لا يعود قادراً على رفضهم. لكن ذلك لم يمنع بتلهايم من التركيز في عدد من دراساته الأخرى على مسائل تتعلق، ايضاً، بتربية الأطفال الأصحاء، موفراً دراسات كان يأمل ان اتباع الاهل لما جاء فيها، لو قرأوها، سيؤدي الى جعل الأطفال اكثر فائدة من الناحية الاجتماعية، وقادرين بدورهم على تربية اهلهم كما يربيهم هؤلاء. فالمشكلة بالنسبة الى بتلهايم لم تكن، فقط، مشكلة نظرة الكبار الى الصغار والتعامل معهم، ولكن ذلك بخاصة مشكلة نظرة الصغار الى الكبار. ومن هنا ركّز بتلهايم دائماً، باصة في كتب له مثل «القلعة الفارغة» (1967) على الاهمية القصوى للطريقة التي بها، يروي الكبار، الحكايات للصغار. ولقد كانت رواية تلك الحكايات من الاهمية، بالنسبة اليه، بحيث افرد لها واحداً من اشهر وأفضل كتبه وهو الكتاب الذي نتناوله في هذه العجالة والمعتبر من أعمق النصوص التي عالجت «حكايات الجن الخرافية». وفي هذا الاطار كان يحلو لبتلهايم ان يقول «أبداً لن يتمكن التلفزيون من الحلول محل الام او الجد في رواية حكايات لأطفال يضعانهم فوق ركبتيهما طوال ساعات وساعات». وكان بتلهايم يرى ان مثل هذه الوضعية هي الوضعية الاسلم لتكوين الطفل.

مشاركة :