«استخدامات السحر» لبرونو بتلهايم: دور حكايات الأطفال في مجابهتهم الصعوبات

  • 3/8/2017
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

«ليست حكاية الجن سوى مرآة سحرية تعكس الكثير من سمات وجودنا الجوّاني والمسارات التي يتطلبها عبورنا من سن اللانضوج إلى سن النضوج». بهذه العبارة، حدد الباحث برونو بتلهايم في مقدمة كتابه الشهير «استخدامات السحر» (والمعروف عالمياً في عنوان ترجمته الفرنسية «التحليل النفسي لحكايات الجن») غايته الأساسية من وضعه هذا الكتاب، الذي انفجر كالقنبلة في عالم الدراسات السيكولوجية للأطفال حين صدر في العام 1976 - ليقال لاحقاً أن أجزاء عريضة منه مقتبسة من كتاب سابق للباحث جوليوس هويشر، لكن هذه تبقى مسألة أخرى بالطبع - المهم هنا هو هذا الكتاب الذي يقول مؤلفه أنه وضعه انطلاقاً من ملاحظته أن «الأسرة المعاصرة لنا باتت غارقة في نوع من اللاأمان. لقد كانت التبدلات الاجتماعية في الحقبة الأخيرة، متعددة وعصية على التوقع. خذوا مثلاً مسألة الأم التي تعمل خارج المنزل. في غيابها عن البيت لا يمكن أحداً أن يعرف حقاً ما يتعين فعله للطفل. في فرنسا، هناك نظام دور الحضانة، منظم ومزدهر، ولكن هل تعتقدون حقاً أن دار الحضانة يمكنها أن تحل، في تربية الطفل، محل الأم والبيت العائلي...». > والحال أن الفقرة التي أوردناها أعلاه قالها بتلهايم بعد أن عاش تجربة امتدت عقوداً من السنين في مجال التعاطي مع قضية الأطفال وذهنيته، تجربة أسفرت عن كتب ودراسات عدة جعلت البعض ينظر إلى بتلهايم على أنه فرويد القرن العشرين. وبتلهايم، ولد على أي حال في فيينا في 1903، أي في العام الذي كان يشهد ذروة انتصارات فرويد في مجال التحليل النفسي، وذروة خروج النفس من وصاية «علم النفس» إلى رحابة وواقعية «التحليل النفسي». ولعل قراءة متمعنة في كتاب بتلهايم الذي نحن في صدده هنا كفيلة بأن تضعنا على تماس مباشر مع الدوافع الراهنة التي جعلته يقول مثل هذا الكلام الذي قد يبدو بالنسبة إلى البعض رجعياً، ويقف بالتناقض مع كل الشعارات التي ترفعها مناضلات الحقوق النسوية، والتي كانت وصلت إلى ذروتها في الوقت الذي ظهر فيه الكتاب وترجم من فوره إلى عدد كبير من اللغات، كما نوقش من جانب الكثير من الباحثين المختصّين. ولكن، مهما كان من شأن ذلك النقاش، وحتى لو رفض البعض استنتاجات المؤلف، تبقى تحليلاته مدهشة وصائبة إلى درجة يصعب في مثل مجالنا هنا أن نتوقف عندها. من هنا، قد يكون من الملائم لنا أن نرسم بعض الملامح لتحليل بتلهايم عدداً من حكايات ألف ليلة وليلة في سياق كتابه، حتى وإن كان بعض هذه الحكايات أُضيف إلى الليالي العربية. > يتوقف المؤلف في شكل أساسي عند ثلاث من أشهر الحكايات: تلك المؤسسة التي تتحدث عن شهرزاد وشهريار، ثم حكاية الصياد والجني وبعد ذلك حكاية السندباد البحري والسندباد البري. فبالنسبة إلى بتلهايم يمثل الملك المخدوع وعروسه شهرزاد معاً نزعتنا العدوانية التي إذا لم نستوعبها تكون قادرة على تدميرنا. فشهريار يرمز إلى فرد يخضع كلياً إلى سيطرة الـ «هو» - وفق التعبير الفرويدي - وذلك لأن أناه فقدت كل قدرة على السيطرة إثر خيبات حادة تعرض لها، فبما أن دور الأنا حمايتنا من الإحباطات وها هي تعجز عن القيام بدورها، يتنطح الـ «هو» للعب هذا الدور. وفي المقابل تأتي شهرزاد التي تمثل الأنا الواعية «بفضل قراءاتها ونهلها من العلوم والمعارف»، لتحاول أن تعوض على الملك ناقلة إياه من الفعل الغريزي إلى الفعل المتحضر. وفي الانتقال إلى حكاية «الصياد والجني» يفسر لنا الباحث الأسباب التي تدفع الجني المأسور في زجاجة إلى التأرجح بين قراره قتل من سينقذه وقراره الآخر بإغداق كرمه عليه، حيث يحدث الكتاب هنا نوعاً من التماهي بين الطفل والجني - وليس كما اعتاد الباحثون أن يفعلوا، بين الطفل والصياد - انطلاقاً من الرغبات التي تتملك الطفل في البيت حين يشعر بأن والديه، وأمه بخاصة، قد هجراه. من هنا، يشعر الطفل، كما يفيدنا بتلهايم، بالقوة حين يلاحظ في الحكاية أنها توجه تحذيراً إلى كل القابضين على السلطة. أما أخيراً، بالنسبة إلى حكاية السندباد، فإن الكاتب يرينا كيف أن الطفل يتعاطف منذ البداية مع سندباد وهو يحكي عن صعوبات عيشه منصرفاً إلى أحلامه التي لن تبدو أكثر من وساوس يلجأ إليها الحمال الفقير لكي يهرب من حياته القاسية وذلك قبل أن يكافأ على تحمّله وصبره. ولكن ليس مجاناً، بل مقابل رضائه بخوض الأخطار التي يدفعه إليها «ذلك الرجل العجوز الخبيث المقيم في داخلي» كما يقول السندباد نفسه. > ولد برونو بتلهايم في فيينا، التي درس في جامعتها وحصل على شهادة الدكتوراه منها في 1938. ولكن فرحته بالدكتوراه، في ذلك العام لم تكتمل، إذ سرعان ما رمى به النازيون في معسكرات الاعتقال متنقلين به بين داشو وبوشنفالد، وكاد يكون مصيره القتل، كما روى بنفسه أكثر من مرة، لولا معجزة ما أدت إلى إطلاق سراحه في العام التالي، 1939، أي عام اندلاع الحرب العالمية الثانية، فسارع بالهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية. وهو منذ ذلك الحين بات يعتبر أميركياً وراح يكتب معظم كتبه ودراساته بالإنكليزية. وكان حال وصوله إلى الولايات المتحدة قد التحق بمركز تابع لجمعية البحث التربوي في جامعة شيكاغو. ثم بعد ذلك بسنوات قليلة أصبح مدرساً للتحليل النفسي في كلية روكفورد (1942 - 1944)، وكان من شأنه أن يبقى على تلك الحال باحثاً جامعياً مرموقاً، إنما محدود الشهرة، لولا أنه نشر في 1943 دراسة في عنوان «السلوك الفردي والجماعي في المواقف القصوى» قرئت على نطاق واسع وتمّ نقاشها لما فيها من آراء جديدة ومفاجئة، خصوصاً أن بتلهايم أسس دراسته على ملاحظاته وتجاربه الشخصية التي عاشها في معسكرات الاعتقال النازية، فكان بهذا أول عالم يخضع مثل تلك التجارب للدراسة العلمية ويحلل آلية القمع، وردود الفعل الجماعية في معسكرات الاعتقال، بعيداً من الخطاب السياسي، والدعاوى. > منذ ذلك الحين، لم يعد بإمكان أي شيء أن يقاوم صمود برونو بتلهايم العلمي. هكذا، نجده يعيّن في 1942 أستاذاً مساعداً لعلم النفس في جامعة شيكاغو، كما عُين في الوقت ذاته رئيساً لمدرسة لفحص قلق الطفولة تابعة للجامعة ذاتها. وهناك في تلك المدرسة عاش بتلهايم احتكاكه الواسع والأساسي مع المشكلات العاطفية والذهنية للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و14. وكان صلب عمله يدور حول الأطفال «المتخلفين» عقلياً. وعند بداية سنوات الخمسين، راح بتلهايم يوسّع من دائرة اهتماماته العلمية في مجال تطبيق نظرياته حول الطفولة ومشكلاتها على المعضلات الاجتماعية المتعلقة بتربية الأطفال أنفسهم. وفي تلك الآونة، اشتهرت له دراسات عدة راحت تترجم إلى الكثير من اللغات، وأشهرها في ذلك الحين «الحب وحده لا يكفي» (1950) الذي أثار ضجة كبرى في عالم التربية. على الدوام كان عمل برونو بتلهايم يتحلق حول الكشف عما يمكن فعله من أجل إزالة أسباب المعاناة العاطفية والقلق لدى الأطفال الذين يعانون ذلك، ومساعدتهم على العمل ضمن طاقاتهم الخلاقة وضمن إطار مجتمع لا يعود قادراً على رفضهم. > لكن ذلك لم يمنع بتلهايم من التركيز في الكثير من دراساته الأخرى على مسائل تتعلق، أيضاً، بتربية الأطفال الأصحاء، موفراً دراسات كان يأمل بأن اتباع الأهل ما جاء فيها، لو قرأوها، سيؤدي إلى جعل الأطفال أكثر فائدة من الناحية الاجتماعية، وقادرين أيضاً على تربية أهلهم كما يربيهم هؤلاء. فالمشكلة بالنسبة إلى بتلهايم لم تكن، فقط، مشكلة نظرة الكبار إلى الصغار والتعامل معهم، ولكن مشكلة نظرة الصغار إلى الكبار. من هنا، ركّز بتلهايم دائماً، بخاصة في كتب له مثل «القلعة الفارغة» (1967) على الأهمية القصوى للطريقة التي بها، يروي الكبار، الحكايات للصغار. ولقد كانت رواية تلك الحكايات من الأهمية، بالنسبة إليه، بحيث أفرد لها واحداً من أشهر وأفضل كتبه «التحليل النفسي لحكايات الجن الخرافية». وفي هذا الإطار، كان يحلو لبتلهايم أن يقول: «أبداً لن يتمكن التلفزيون من الحلول محل الأم أو الجد في رواية حكايات لأطفال يضعانهم فوق ركبهم طوال ساعات وساعات. وكان بتلهايم يرى أن مثل هذه الوضعية هي الوضعية الأسلم لتكوين الطفل.

مشاركة :