القاهرة - يعد أنوريه دي بلزاك من بين أشهر كتّاب الرواية قاطبة، فعلى يديه اكتمل تحول الرواية من مجرد ”حكاية” أو سرد لأحداث حقيقية أو خيالية إلى بناء فني متكامل يزخر بالحياة والأحداث، ويخضع لمعايير فنية واضحة. وليس أدل على منزلة بلزاك الأدبية من أن أعماله قد تخطت منذ أمد بعيد إطار الأدب الفرنسي ونقلت إلى الكثير من لغات البشر، فهو – إلى جوار شكسبير وديكنز- أكثر الأدباء نشرا في مختلف اللغات. ومن الغريب أن تفتقر المكتبة العربية إلى معظم مؤلفاته. هكذا يفتتح المترجم عبدالفتاح الديدي ترجمته لرواية “امرأة في الثلاثين” لبلزاك والصادرة أخيرا عن دار آفاق للنشر، وهي الرواية التي يبدو أن الكاتب قد اختار بطلتها من خلال الرسائل الكثيرة التي كان يتلقاها من نساء في سن الثلاثين، وخاصة تلك التي برزت أمامه بقوة شخصيتها. وأغلب الظن أنها كانت شديدة الحظوة لدى الناس. وقد استطاعت تجربة المرأة الحكيمة أن تقنع بلزاك ـ عندما قابلها ـ بثبات مبادئها، وكانت مصدر إيحاء بالنسبة إلى أغلب مواقف الصرامة التي تخللت حياة السيدة “ديجليمون” داخل هذه الرواية. فهذه المرأة “ديجليمون” في الثلاثين تعيش نضجا عاطفيا وفكريا وجسديا، كانت قد تزوجت في سن صغيرة بضابط كبير وأنجبت منه ولدا وبنتا لكنها سرعان ما تكشفت رغباتها الحقيقية التي اعتملت في أعماقها، ولتعيش أوجاعا ومآس وتغرم بدبلوماسي شاب يدعى شارل ديفاندينيس. لذا يتتبع بلزاك حياة هذه المرأة ويقدم للقراء رواية استثنائية تفكك النسيج الاجتماعي وتسائل الأخلاق والعادات الاجتماعية والنفس البشرية بجرأة عميقة، حيث حياة المرأة الثلاثينية بين ضغوط المجتمع وعاداته وإكراهاته لها وبين عشقها وقلبها المفتون بالحب والرغبة في التحرر. ويمكن لنا أن نلاحظ رغم قدم الفترة التي كتبت فيها وعنها الرواية إلا أنها مازالت تمثل عينة عما تواجهه النساء، وخاصة أولئك الثلاثينيات، وما يعانينه من تناقضات وثنائيات تفرضها عليهن البنية الاجتماعية التي لا تهتم للفرد بقدر اهتمامها ببنائها السطحي الزائف فلا قيمة للذات في وسط الجماعة ولا أهمية لأحلامها ورغباتها وهواجسها وأفكارها، وهو ما نعانيه أيضا اليوم رغم التطور الكلي الكبير الذي شهدته البشرية ورغم مرور أكثر من قرنين منذ صدور الرواية إلا أنها لا تزال معبرة عن الثلاثينيات ولو باختلاف شكلي في القضايا بين الأمس واليوم.
مشاركة :