تمتاز المصائد في المياه الإقليمية لمملكة البحرين بتنوع حيوي واسع من الكائنات البحرية مثل الطحالب والحشائش البحرية وغيرها من أحياء حيوانية ونباتية من مختلف الأشكال والأحجام. ولعل من أهم تلك الكائنات المرتبطة باستهلاك الإنسان لها في نظامه الغذائي، الاسماك بمختلف أصنافها السطحية والقاعية وأخرى تتواجد في عمود الماء (من السطح إلى قاع البحر)، يربو عددها إلى نحو 131 نوعًا. تُصنف تلك الأنواع إلى خمس وعشرين مجموعة بحسب المميزات والخصائص المشتركة فيما بينها وهي: مجموعة الربيب (16 نوعًا)، ومجموعة الهامور (9 أنواع)، ومجموعة التونة (8 أنواع)، ومجموعة الفسكر (7 أنواع)، ومجموعات الشعري والنيسر (6 أنواع لكل مجموعة)، ومجموعات الجنم و«القرشيات واللُخم» والكنعد (4 أنواع لكل مجموعة)، مجموعات الحامر والروبيان والميد (3 أنواع لكل مجموعة)، مجموعات البدح والحاكول والصافي وأم الروبيان (نوعين لكل مجموعة). أما مجموعات: الأخطبوط والجد و«الخثاق والحبار» والسِكن والسِلس وسرطان البحر «القبقب» والقين وخيار البحر وقنديل البحر، فتضم كل منها نوعا واحدا، بالإضافة إلى 41 نوعًا من اسماكٍ أخرى، وهو ما يمثل ثروة بحرية ينبغي المحافظة عليها وتنميتها بشتى السُبل. منذ ستينيات القرن الماضي استمرت المؤسسات الحكومية المتعاقبة المعنية بالثروة السمكية، في إصدار العديد من التشريعات المُنظمة لقطاع الصيد البحري في مملكة البحرين. ولعل من أهم تلك التشريعات المرسوم بقانون رقم (20) لسنة 2002 بشأن تنظيم صيد واستغلال وحماية الثروة البحرية، الذي تنضوي تحته جميع القرارات السابقة واللاحقة المعمول بها في هذا القطاع. إن التشريعات المشار إليها كثيرة كمًا ونوعًا بما يغني عن أي تشريعات جديدة في الوقت الراهن فالموجود منها يكاد يفي بالغرض، غير أن إبقاء هذه التشريعات فعالة يتطلب مراجعتها بشكل دوري من قِبل السُلطتين العلمية والإدارية المختصة، وتحديثها عند الاقتضاء بما يتماشى وحالة المخزون السمكي الذي يخضع لمتغيرات مستمرة جراء عوامل بيئية ونشاطات بشرية متنوعة، فضلاً عن تطبيق التشريعات القائمة من قِبل الإدارة والرقابية ذات الصلة، وتعاون الصيادين بالتزامهم بالإجراءات المُنظمة لعمليات الصيد في البحر. قبل عقدين من الزمن صدر عن وزارة الأشغال والزراعة المعنية بقطاع الثروة السمكية آنذاك، قرارها رقم (3) لسنة 1997 بشأن حظر صيد وبيع صغار الاسماك والقشريات، وحدد القرار حدًا أدنى للطول المسموح به لثلاثة عشر نوعًا من الكائنات البحرية التجارية الشائعة الاستهلاك في مملكة البحرين (انظر الجدول) بهدف المحافظة على الثروة السمكية وتنميتها تحقيقًا لمبدأ التنمية المستدامة للموارد البحرية الحية. كما يعرض الجدول الأطوال القصوى للاسماك وهي الأطوال التي يمكن أن تنمو إليها تلك الأنواع إذا ما أتيحت لها الفرصة والظروف المواتية للعيش بمعزِل عن الصيد أو الوفيات التي قد تتعرض لها الأحياء البحرية جراء إصابتها بأمراض أو نهاية فترة حياتها. تجدر الإشارة إلى أني قد تناولت ظاهرة صيد الاسماك وهي صغيرة الحجم في مقالٍ سابق نشر في هذه الصفحة. مما لا شك فيه أن القرار رقم (3) لسنة 1997 آنف الذكر، قد سنّ الحد الأدنى للأطوال المسموح بها بناءً على نتائج دراسات علمية واعتبارات أخرى اقتضتها حالة مخازين الثروة السمكية آنذاك، إلا أن المعطيات التي كانت قبل 21 سنة ربما لم تعد صالحة الآن لأسبابٍ عِدة قد يكون منها: مواجهة الموارد السمكية في المصائد على مدى العقدين الماضيين الكثير من المتغيرات والتحديات من حيث: استمرار الضغوطات على صيد الاسماك والقشريات بعِددّ صيد مختلفة، وانخفاض كميات الاسماك المُصطادة عامًا بعد عام على صعيد الكميات وأنواع الصيد البحري (اسماك وقشريات)، واستمرار بعض الصيادين في ممارساتهم غير السليمة من حيث صيد الاسماك صغيرة الحجم ومزاولة الصيد في فترات الحظر وإنزالهم للصيد إلى منافذ البيع، فضلاً عن تقلص المناطق الساحلية التي كانت في السابق مناطق حضانة ورعي لعدد أكبر من صغار الاسماك في مراحل نموها الأولى، ما أدى ويؤدي إلى تعطيل مرحلة مهمة من دورة حياة الكائنات البحرية وإحداث نقص حاد في المخزون على المديين القريب والمتوسط. من جهةٍ أخرى، بالنظر إلى بيانات الحد الأدنى للأطوال المسموح بصيدها لاسماك الكنعد والسِكن، 40 سنتيمترا لكلٍ منهما، مع الأطوال القصوى لهما: 240 سنتيمترا و200 سنتيمتر، على التوالي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل اسماك الكنعد والسِكن اليافعة بطول 40 سنتيمترا في الوقت الراهن وفي ضوء المتغيرات البيئية المُشار إليها تكون بالغة جنسيًا مثلما هو حال أفرادها البالغة التي تصل أطوالها إلى أكثر من 200 سنتيمتر؟ لا أعتقد ذلك، يؤيد فرضيتي ما توصلت إليه دراسات أجريت على هذين النوعين بوقتٍ سابق في كلٍ من إيران والهند، ونُشِرت نتائجها في مجلات علمية مُحكمة. فقد كشفت تلك الأبحاث التي تقصت عن سمك الكنعد في المياه الإيرانية وسواحلها شمال بحر عُمان، أن متوسط طول الكنعد عند البلوغ يكون 83.6 سنتيمترا (2008) و75 سنتيمترا (2009)، فيما كشفت الدراسة التي أجريت على سمك السِكن في المياه الشمالية الغربية للهند، أن ذكور وإناث هذا النوع تصل البلوغ عند متوسط أطوال 63 سنتيمترا و70 سنتيمترا، على الترتيب (2017). يعني هذا أن الحد الادني لصيد الكنعد البحرين هو في حدود 35-44 سنتيمترا أقل من الطول عند البلوغ الجنسي في مياه إيران، أما سمك السِكن فهو 26 سنتيمترا أقل من الطول عند البلوغ في مياه الهند. إن الوضع الراهن يدفع إلى الاعتقاد بأن كثيرًا من اسماك النوعين المذكورين ربما تُصطاد في مياه البحرين عند بداية بلوغِها الجنسي وهو ما لا يتيح لها التكاثر وأداء دورها في عملية إبقاء النوع. من الأهمية بمكان أن يكون الحد الأدنى لصيد الاسماك أكبر من الطول عند البلوغ من أجل أن تعطى بعض الاسماك التي دخلت في طور البلوغ الجنسي الفرصة للتكاثر ودعم المخزون ولو مرة واحدة في حياتها، كما سبقت الإشارة. كل المعطيات السالفة الذِكر بالإضافة إلى مُضي مدة طويلة على آخر دراسات تقييم المخزون السمكي في مياه البحرين، تُحتِم العمل على تحديث بيانات الحد الأدنى للأطوال المسموح بها لصيد وبيع الاسماك الواردة في القرار المذكور وغيرها من اسماك تجارية أخرى، وفق منهجية تكون مبنية على مؤشرات الحالة الراهنة للاسماك في المصائد، من أجل إدارة أنجع للموارد البحرية الحية بالمصائد في المياه الإقليمية لمملكة البحرين والتي ستنعكس إيجابًا على مثيلاتها في حوض الخليج العربي. منهجية تحديث الحد الأدنى للأطوال المسموح بها التي أود طرحها هنا تقوم على مبدأ قياس مؤشر المنسل (Gonad index) للاسماك الذكور والإناث، الذي من خلال إحدى تطبيقاته يمكِن تقدير طول الاسماك عند البلوغ الجنسي، الذي يتفاوت من نوعٍ إلى آخر بطبيعة الحال. تقوم المنهجية المقترحة على متابعة حالة المناسل (الغدد التناسلية) ومحيط منطقة البطن للأنواع المشمولة في الجدول المرفق على مدى عامٍ كامل بحيث يجري تغطية المواسم كافة، وفي ضوء ما تسفر عنه النتائج يُحددّ الحد الأدنى للطول المسموح بصيده وبيعه، وفي هذا تفصيل ليس هذا المكان للاستفاضه به. مثل هكذا عمل يقتضي اعتماد مبالغ مالية لتنفيذه للصرف على شراء عينات الاسماك على مدار العام، وأجور فريق العمل الذي ستُناط به هذه المهمة. من الأهمية بمكان أن يؤخذ بنظر الاعتبار الاستعانة في تنفيذ هذا العمل الوطني بالمختصين في هذا المجال من أكاديميين وطلبة في جامعة البحرين، وكذلك الباحثون في المؤسسات الحكومية ذات العلاقة مثل إدارة الثروة السمكية والمجلس الأعلى للبيئة. أما عن التمويل فيمكن توفيره بالتضامن بين وزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني بصفتها الجهة الحكومية المعنية بالثروة السمكية، والشركات الصناعية الكبرى في البلاد ولا سيماتلك التي لنشاطاتها الانتاجية علاقة بالبيئة البحرية، تجسيدًا لمبدأ الشراكة المجتمعية بين القطاع الحكومي ونظيره الخاص، فضلاً عن الشركات والمصارف الأخرى التي قد تهتم بالمساهة في تنمية هذا القطاع الحيوي إسهامًا من الأطراف كافة في التنمية المستدامة للموارد البحرية الحية وتعزيز الأمن الغذائي للبلاد. باحث متخصص في علم الأحياء البحرية وعلم المحيطات mj.alrumaidh@gmail.com
مشاركة :