ليست المرة الأولى التي أقرأ فيها كلمات صادقة وإن كانت موجعة، لكاتب عربي عن حال الإحباط والعجز العربي في ما يتعلق بفلسطين، كان آخرها ما كتبه الصحافي اللبناني حازم صاغية في هذه الجريدة يوم 19 أيار (مايو) الماضي، إذ قال: إنه يفترض بنا أن لا نقول شيئاً للفلسطينيين لأننا لا نملك أي جديد نقوله لهم، وأن لا نقول شيئاً لأن ما سوف نقترحه عليهم جربوه كله، واختتم بالدعوة للتوقف عن وعظهم وعن التفنن في اختيار طرق لموتهم، وأن نكتفي بالحزن. أتفهم هذه المرارة وهذا الألم المشروع، ولكني أدعو الكاتب الكبير، وأدعونا جميعاً إلى مقاربة أخرى تقاوم استسلامنا للحزن والمرارة التي يجب أن نبقيها كحافز لنا. وسأبدأ ببعد مهم، وهو أن الفلسطينيين جربوا كل شيء، وهنا أقول إلى حد ما فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، وأخص بالتحديد نهج المقاومة السلمية بأدواتها غير المحدودة، كما أنه وفي إطار أهمية التفكير والمصارحة، أليس من المهم مراجعة الأداء والبدء بنظرة تحليلية دقيقة لمسيرة النضال الفلسطيني السابقة؟ هنا نجد إشكالات عدة مزمنة، أبرزها الانقسام التاريخي الفلسطيني المزمن. في البداية كان الانقسام بين فتح وحركات اليسار الفلسطيني، ثم انتقل إلى الانقسام ما بين فتح والسلطة الفلسطينية في جانب وفي جانب آخر حماس، هنا أليس من المصارحة الاعتراف بأن الجانب الفلسطيني لم يعتمد استراتيجية واحدة للنضال عبر العقود الأربعة الأخيرة على الأقل. وإذا كنت أحد الذين كرروا ضرورة النظر بجدية في انتهاج وسيلة الكفاح السلمي والاستفادة من تجربة نضال جنوب أفريقيا ضد النظام العنصري، وكذا تجربة الكفاح السلمي الهندية، وبالمناسبة لم تسلم تجربة جنوب إفريقيا من بعض العنف، في جميع الأحوال أظن أن هذا النهج لم يتم إعطاؤه وقتاً كافياً، فهو أولاً يحتاج إلى وقت لإنضاجه، ويحتاج إلى مثابرة، ونكرر الإشارة إلى الفارق ما بين أثر الانتفاضتين الأولى والثانية، ونسأل لماذا يتكرر في كثير من المناسبات أنه ما أن يبدأ التظاهر السلمي، حتي يتحول جزء منه إلى نوع من العنف تتلقاه إسرائيل بسعادة لتمارس تصعيدها وعنفها غير المبرر والإجرامي؟ نضيف إلى ذلك الجهود الفلسطينية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، نعم يتم بالفعل الكثير هنا ولكننا أمام أداة أو سلاح يتسم بالقدرات اللامحدودة والتي لا يعني انتشارها التأثير الفوري، كون الخصم الإسرائيلي الأميركي يسيطر على الميديا العالمية، وهنا مرة أخرى المسؤولية ليست على عاتق الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وحده، بل يملك الشتات الفلسطيني والعرب عموماً مساحة حركة أوسع من الشعب تحت الاحتلال، وما زال هناك الكثيرون من العرب المؤيدين والداعمين للشعب الفلسطيني والذين يدركون تبعات تصفية قضيتهم العادلة على المصالح الاستراتيجية العربية وعلى مستقبل المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وهنا مسؤولية كبيرة يتحملها الكتاب والمفكرين العرب في شحذ الهمم ومقاومة اليأس، الذي لا يقل أهمية في مواجهة إجراءات القمع الإسرائيلية. كما أضيف هنا أن استمرار اشتعال وسائل التواصل الاجتماعي من شأنه تجاوز قيود الإعلام العربي، كما أنه ضرورة حيوية وجوهرية في منع مشاريع التطبيع التي أظن شخصياً أنه يحيط بها القدر الكبير من المبالغة المقصودة لمزيد من شق الصف العربي، ولتهيئة الرأي العام العربي والفلسطيني لقبول الأمر الواقع، وفي الواقع أن كثرة ترديد هذه المشاريع هي جزء من إضعاف الروح المعنوية الفلسطينية والعربية وإضعاف التحمس والأمل لديها، ولعلي أتوقف عند هذه الكلمة وهي ضرورة التمسك بالأمل والحماس، وهي ضرورة تعتبر شرطاً ضرورياً لاستمرار الكفاح والنضال الفلسطينيين. واستكمالاً للمصارحة، هل يمكن أن يستمر النضال الفلسطيني دون دعم مالي عربي هو واجب ومسؤولية على عاتق هذه الدول؟ صحيح أن هذا الدعم ليس أكبر من دعم الدول الغربية، التي علينا أن نأخذ في اعتبارنا مسؤوليتها (أي الدول الغربية) عن معاناة الشعب الفلسطيني وإنشاء إسرائيل، ولكن في النهاية الدعم العربي لا يمكن الاستغناء عنه ويجب أن يعوض الابتزاز الأميركي، الذي أضاف أخيراً إلى انسحابه من الأونروا، تنفيذ تهديدات صريحة بوقف المخصصات المالية التي كانت واشنطن قد إلتزمت بها بدءاً من إتفاقية أوسلو. وهنا أشير إلى جهود مهمة للأزهر الشريف وبعض منظمات المجتمع المدني المصرية، وأظن شخصياً أن استخدام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لنداءات دعم الشعب الفلسطيني في ضوء صعوبات الأونروا الراهنة يحقق أهدافاً عدة تتجاوز الحاجات المادية المشروعة للشعب الفلسطيني إلى الإبقاء على جذوة القضية، فحتى الذي يكتفي بالدعم المادي ومواصلة حياته الطبيعية بأبعادها المختلفة، فهذا لا بأس به، كما أن أهمية الحفاظ على التعبئة من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي هي ضرورة للحفاظ على الرأي العام العربي وضغوطه على الحكومات العربية. وكمثال على أنماط لا حصر لها لدعم مادي يصب في خدمة القضية الفلسطينية، هي العمل على زيادة الأنشطة الفنية الفلسطينية الخارجية في الاتجاهات كافة سواء في البلدان المختلفة أو الأشكال الفنية المختلفة، وفي الواقع أن تجربة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز أنشطة فنية فلسطينية أمر ليس جديداً وإنما معتاد، لكن المقصود هو التوسع في هذا النشاط بأكبر طاقة ممكنة لما يمكن أن يحققه هذا من عائد كبير على صعيد تذكرة العالم بهذا الشعب وحقوقه الطبيعية. ويثير البعض ضمناً تساؤلاً، أنه إذا كان العرب لا يستطيعون قطع العلاقات، أو معاقبة الولايات المتحدة، فكيف يفعلون هذا في مواجهة الدول اللاتينية التي أقدمت على هذه الخطوة؟ في الواقع إنني لا أرى شخصياً أي إشكال في هذا، بل العكس فإن عدم اتخاذ إجراءات ضد هذه الدول قد يشجع غيرها على اتخاذ نفس الخطوات، كما أنه مع الإجماع الدولي على رفض خطوة واشنطن فإن التهاون ضد مسألة نقل السفارات إلى القدس هو الذي سوف يرسي أمراً واقعاً وخطيراً، وقد دعا وزير الخارجية الفلسطيني إلى اتخاذ هذه الخطوة، ويفترض أن اللجنة الوزارية العربية تدرس ردود الفعل العربية المحتملة، وأعتقد شخصياً أنه ليس لدى العرب كثير ليخسروه مادياً في حال اتخاذ هذه الإجراءات، بل أؤكد أن مكاسب الحكومات العربية أكبر بكثير وسوف يشكل هذا ضغطاً كبيراً على الأطراف الأخرى التي تريد أن تقدم على هذه الخطوة، كما سيحقق ضغطاً مناسباً على واشنطن وتهدئة للشعوب العربية والإسلامية الغاضبة، ومن يتحدث عن المعايير المزدوجة وعدم اتخاذ الإجراء ذاته ضد واشنطن فعليه أن يتذكر أن كل معايير العالم مزدوجة. إن مسيرة الصراع العربي– الإسرائيلي مليئة بالأخطاء العربية والفلسطينية، ولكن ما حققه النضال الفلسطيني جاء بمساهمات وجهد عربي يجب تذكره واحترامه، والقائمة بهذا الصدد طويلة، وما زال من الممكن والواجب على العرب عمل الكثير سياسياً واقتصادياً وديبلوماسياً، ويكفي تذكر حاجة الشعب الفلسطيني لهذا الدعم العربي على صعيد المنظمات الدولية، صحيح أن هناك حدوداً أخيراً في ما يتم تحقيقه بهذا الصدد، ولكنها ساحة لا يمكن إهمالها ودونها سيكون الوضع أسوأ بكثير، كما أن المعارك التي ستواجهها السلطات الفلسطينية في مسألة المحكمة الجنائية الدولية وغيرها ستحتاج بالضرورة إلى دعم عربي سياسي وديبلوماسي. يملك الشعب الفلسطيني أعلى نسبة تعليم في العالم العربي، وقوة سكانية لا يستهان بها على المدى البعيد، ولا أحد ينكر ثباته وإصراره على هويته وحقوقه، وما زال لدينا كعرب بعض ليس قليلاً من إمكانات دعمه والتفكير معه في ما يمكن عمله، فليكن حزننا وألمنا لاستمرار معاناته دافعاً لنا في التحرك الإيجابي والتفكير الدائم في خيارات جديدة ولو حتى بتقليل الخسائر انتظارا لظروف أفضل. * كاتب مصري
مشاركة :