وقتما كانت أوروبا لا تعرف عن العالم سوى مجموعة أساطير وهمية وتصورات دينية فرضتها الكنيسة على المجتمع. وضياع تراث اليونان الجغرافي، الذي حرم من معارف الأوائل. وظلت آراء آباء الكنيسة الرافضة لكروية الأرض مسيطرة على العقول في القرون الوسطى، كان أبوعبد الله محمد الإدريسي القرطبي الحسني السبتي، وشهرته الإدريسي، يثبت كروية الأرض ويرسم أول خارطة للعالم.والإدريسي عالم وكاتب وجغرافي ورسام خرائط وعالم مصريات عربي مسلم كان يعيش في بالرمو، صقلية في بلاد الملك روجر الثاني. وُلد في سبتة، التي كانت تابعة لدولة المرابطين.وبالإضافة لشهرته في رسم الخرائط في العصور الوسطى، كتب الإدريسي، في التاريخ، والأدب، والشعر، والنبات ودرس الفلسفة، والطب، والنجوم، والجغرافيا، والشعر في قرطبة ثم بدأ رحلته إلى إسبانيا والبرتغال، ثم زار أفريقيا وآسيا الصغرى. استخدمت مصوراته وخرائطه في سائر كشوف عصر النهضة الأوربية حيث لجأ إلى تحديد اتجاهات الأنهار والمرتفعات والبحيرات، وضمنها أيضًا معلومات عن المدن الرئيسية بالإضافة إلى حدود الدول.انتقل الإدريسي إلى صقلية بعد سقوط الدولة الإسلامية، لأن الملك النورماني في ذلك الوقت "روجر الثاني" كان محبًا للمعرفة. شرح الإدريسي لروجر موقع الأرض في الفضاء مستخدمًا في ذلك البيضة لتمثيل الأرض، شبه الإدريسي الأرض بصفار البيضة المحاط ببياضها تماما كما تهيم الأرض في السماء محاطة بالمجرَّات.أمر الملك الصقلي روجر الثاني له بالمال لينقش عمله خارطة العالم والمعروف باسم "لوح الترسيم" على دائرة من الفضة. في إحدى المرات قدم وصفًا عن وضع السودان، وعن حالة " المواقع بدقة متناهية تمامًا، كما هي على أرض الواقع، مع أنها كانت فقط من خلال الاستماع إلى بعض القصص والكلمات. استخدم الإدريسي خطوط العرض أو الخطوط الأفقية على الخريطة والكرة الأرضية التي صنعها، استخدمت خطوط الطول من قبله إلا أن الإدريسي أعاد تدقيقها لشرح اختلاف الفصول بين الدول. دُمرت تلك الكرة خلال اضطرابات مدنية في صقلية بعد وفاة الملك "روجر الثاني".في جزيرة صقلية تفتقت مواهبه العلمية وقام بعمله الخالد الذي عرف به في التاريخ، وكانت صقلية في ذلك العهد قد خرجت من حكم المسلمين، وخضعت لحكم النورمان المسيحيين، وإن كان المسلمون يكونون فيها أكبر جالية من السكان غير المسيحيين، وكان ملوكها من النورمان وخاصة روجر الثاني الذي عاش الشريف في أكنافه، يتشبه بالمسلمين ويتظاهر بعاداتهم في اللباس والهيئة وشارات الملك، ويخالف عادة الأوربيون في كل ذلك.. وكان يكرم المسلمين ويقربهم وينتفع بخبرتهم ومعارفهم.. قال صلاح الدين الصفدي في ترجمة الشريف الإدريسي من كتابه "الوافي بالوفيات" عن الملك روجر الثاني: «"وهو الذي استقدم الشريف الإدريسي صاحب كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" ليصنع له شيئا في شكل صورة العالم..".»حدد الإدريسي مصدر نهر النيل، ففي موقع معين وضع نقطة تقاطع نهر النيل تحت خط الإستواء، وهذا هو موقعه الصحيح. قبل دخول مصر تلتقي روافد نهر النيل في الخرطوم عاصمة السودان، يتشكَّل نهر النيل من نهرين هما النيل الأبيض والنيل الأزرق، يجري هذان النهران عبر أراضي السودان ويلتقيان في الخرطوم التي تقع تحت خط الإستواء. وتحديد موقع نهر النيل يُلغي نظرية بطليموس أن مصدر نهر النيل هو تلة في القمر.ألف الإدريسي كتابه المشهور (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) والمسمى أيضًا (كتاب روجر) أو (الكتاب الروجري) وذلك لأن الملك روجر ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه كما طلب منه صنع كرة من الفضة منقوش عليها صورة الأقاليم السبعة، ويقال أن الدائرة الفضية تحطمت في ثورة كانت في صقلية، بعد الفراغ منها بمدة قصيرة، وأما الكتاب فقد غدا من أشهر الآثار الجغرافية العربية، أفاد منه الأوروبيون معلومات جمة عن بلاد المشرق، كما أفاد منه الشرقيون، فأخذ عنه الفريقان ونقلوا خرائطه، وترجموا بعض أقسامه إلى مختلف لغاتهم ويعد هذا الكتاب فريد من نوعه استغرق تأليفه 15 عامًا حيث نهج فيه الإدريسي نهجًا جديدًا عن غيره من الجغرافيين المسلمين فقد وصف العالم ككل ثم قسمه إلى سبعة أقاليم وكل إقليم إلى عشرة اقسام رئيسيه ثم وصف كل قسم ورسم له خريطة وتحاشى فيه الخلط بين التاريخ والجغرافيا وظل كتابه مرجعًا لعلماء أوروبا أكثر من ثلاثة قرون.قام الإدريسي برسم أول خريطة للعالم بناء على أمر من الملك الصقلي روجر الثاني فكانت مدينة باليرمو هي المكان الذي نشر الإدريسي أول خريطة للعالم فيه، وهي تُعرف عند العرب بخريطة الإدريسي، ويقال أنها أول خريطة سليمة (أي صحيحة) نعرف عنها وقد اخذ الإدريسي حوالي 15 عامًا في رسم هذة الخريطة نتاجًا عن رحلاته. وترجمت رحلة الادريسي هذه كاملة الى اللغة الفرنسية فقط، بينما هناك ترجمات جزئية منها في شتى لغات العالم. ولعل سبب ذلك يعود الى ضخامة العمل، فكأن كل باحث غربي أراد القاء الضوء على ملاحظات الإدريسي حول موضوع أو بلد أو مدينة معينة فحسب من دون معالجة الرحلة بكاملها نظرًا الى طولها ودقة تفاصيلها.في كتابه الشهير "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" (ج1، ص 280) يقول كراتشكوفسكي عن الادريسي: "أجداد الادريسي المباشرون، كانوا أمراء صغارًا في مالقة. وهم أيضًا لم يستطيعوا الاحتفاظ طويلًا بسلطانهم، فاضطروا الى الرجوع الى سبتة في القرن الحادي عشر، وهناك فيما يبدو ولد الادريسي العام 493 هـ/ 1100. ويلوح أن صلة الأسرة بالأندلس لم تنفصم. فالإدريسي تلقى العلم في قرطبة التي يعرفها معرفة جيدة. فالوصف الشامل الذي أفرده لها في كتابه يحمل آثار المعرفة المباشرة بالمدينة. وفي عام 510 هـ / 1116، وهو لما يتجاوز السادسة عشرة من عمره - زار آسيا الصغرى. وهذا ما أمكن استنتاجه بالتحديد في شأن رحلاته. والظاهر انه لم ير بقية افريقيا وآسيا. وفي عام 1138 عبر البحر في ظروف يشوبها الغموض الى جزيرة صقلية، حيث كان يوجد بلاط روجر الثاني في بالرمو. وظل الادريسي وثيق الصلة به الى وفاة الملك في فبراير من عام 560 هـ/ 1160م. ثم مرّت عليه وهو في صقلية لحظات قلقة في عهد خليفة روجر ولكنه رجع في أيام شيخوخته في ما يبدو الى مسقط رأسه سبتة.بينما يؤكد العلماء أن الإدريسي توفي في جزيرة صقلية في عام 560 هـ (1166م).
مشاركة :