لم تقم الحضارة العربية الإسلامية على المدارس الفقهية أو علم رواية الأحاديث كما يحاول أن يروج البعض لكنها قامت على العلوم والفنون والآداب وكان من بين هذه العلوم علم الفقه والرواية والتفسير أي ما أطلق عليه العلوم الدينية ومن بينها علوم القرآن، فتلك العلوم الدينية كانت رافدا من روافد هذه الحضارة وحقلا مهما من حقولها المعرفية، وسوف نتحدث اليوم عن حقل لا يقل اهمية بحال من الحقول العلمية للحضارة الإسلامية ألا وهو الفلسفة، وسوف نتناول واحد من أهم الفلاسفة في القرن الرابع الهجري وان لم يتردد اسمه كثيرا مثل الكندي والفارابي وابن سينا.انه: أبو الحسن محمد بن أبي ذر يوسف العامري النيسابوري، لا أحد يعرف تاريخ مولده والمرجح انه ولد في بدايات القرن الرابع الهجري، وتوفي في شوال 381 هجرية. كان من أعلام عصره كما يقول ابو حيان التوحيدي، ووضعه الشهرستاني صاحب الملل والنحل جنبا إلى جنب مع كبار فلاسفة الاسلام، وتحدث عنه أبو حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع والمؤانسة واقتبس كثيرا من "كلماته الشريفة" في المقابسات، كما أخذ عنه مسكويه في كتابه "جاويدان خرد" فصلا مسهبا في كلماته وأخذ عنه أيضا الشهرزوردي في "نزهة الأرواح" وأبو المعالي في "بيان الأديان" وغيرهم.نشا ابو الحسن محمد ودرس الفلسفة على يد أبي زيد البلخي، تلميذ الكندي، بخراسان، وقد ورد في "منتخب صوان الحكمة" ان العامري تفلسف بخراسان، وقد قرأ على يد أبي زيد البلخي، وعرف بعد ذلك بـ"فيلسوف نيسابور".وقد كان مشغولا بالترحال ومعاينة أحوال الناس وتقلبات الأيام وتغير الدول، لذلك قيل عنه "كان من الجوالين الذين نقبوا البلاد، واطلعوا على أسرار الله في العباد". وكان في أثناء ترحاله وتجواله ومعاينته مدفوعا بمحبة العلم، ولهذا كان يتردد إلى المراكز العلمية الثقافية آنذاك، وخصوصا في زياراته بغداد والري وبخارى، فقد كان يطيل الغقامة في كل منهما متعلما معلما مناظرا ومؤلفا، وقد أثرت ثقافات هذه المدن في أبى الحسن تأثيرا كبيرا.ويبدو ان المنافسة العلمية التي كانت قائمة بين خراسان وبغداد في ذلك الوقت، كانت السبب في سوء استضافة أبي الحسن حيث يقول التوحيدي: "ولقد ورد العامري بغداد سنة اربع وستين وثلاثمائة في صحبة ذي الكفايتين ابي الفتح بن العميد، فلقي من أصحابنا البغداديين عنتا شديدا ومناكدة، وذلك لان طباع أصحابنا معروفة بالحدة والتوتر على فاضل يرى من غير بلدهم".وقد وضع العامري في بخارى كتابه الموسوم بـ"التقرير لأوجه التقدير" لأبي الحسين العتبي وزير نوح بن منصور الساماني، ثم ألف فيها كتابه "الامد على الابد" والذي حوى في مقدمته أسماء مصنفاته الأخرى. ومما يؤكد تشجيع السامانيين للعلماء مكوثه فترة طويلة ببخارى، حيث وجود المكتبة العظيمة التي حوت مفاخر الكتب، وقد شجعت أبا الحسين أيضا على البقاء مدة طويلة في بخارى مصنفا فيها أعظم كتبه التي اثرت عنه. ولكنه في النهاية أثر العودة لنيسابور بعد ان تقدمت به السن ليمضي ما بقي من حياة في ربوعها.وقد شرح كتاب النفس لارسطو وكتاب البرهان والف منهاج الدين والفصول في المعالم الإلهية والسعادة والاسعاد في السيرة الإنسانية وغيرها من المؤلفات المهمة، التي بينت لنا أن العامري كان ذا ثقافة شاملة متنوعة، فقد تناول في كتبه الفلسفة من جميع جوانبها وخصوصا فيما يتعلق منها بما وراء الطبيعة والمنطق والأخلاق. ولا ريب أن هذه الشمولية وهذه الثقافة الضاربة في مختلف العلوم نشأت عن انتمائه إلى مدرسة الكندي على يد تلميذه البلخي لذلك اجتمعت له الثقافات اليونانية والاسلامية مضافا غليهما ثقافات الأمم التي اتصل بها الاسلام بعد الفتوحات.
مشاركة :