هجرات شعراء عرب راسخين إلى كتابة الرواية لا تُدين الشعر، وإنما قد تجسد قدرا من الشعور باللا جدوى، شيئا من ضعف الإيمان بالشعر وتراجع الرهان عليه. هذا الانحياز الطوعي ربما يوحي إلى القارئ بأن الرواية سهلة المنال، صيد تنقصه المغامرة ويمكن مد اليد لالتقاطه من المياه الضحلة. هذه الهجرات لا تنال من مكانة الشعر، ولا تمنح عزاء عن أعمار أهدرت في فن يسهل فراقه، بعد أن أصبح كثيرا، صار الشعر متشابها وغزيرا إلى درجة الندرة، ويدعو القارئ أحيانا إلى الزهد عنه، حتى يعيد الشعراء إيمانهم بآية “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا”؛ فلا إبداع إلا بمجاهدة، مهما يكن حظ الشاعر من الموهبة ووفرة الحصاد، وربما بسبب أصالة الموهبة وامتياز الحصاد. وكان أحمد شوقي وهو يكتب قصيدته عن النيل قلقا، لا يستقر في مقعده بمطعم قريب من كوبري قصر النيل. كتب “من أي عهد في القرى تتدفق، وبأي كف في المدائن تغدق”، وكل نصف ساعة يركب “الحنطور”، ويتجوّل في جزيرة الزمالك، ثم يعود إلى منضدته ليكتب المزيد. وفي كتاب “اثنا عشر عاما في صحبة أمير الشعراء أحمد شوقي” يسجل أحمد عبدالوهاب أبوالعز سكرتير شوقي منذ عام 1920 حتى وفاته عام 1932 أن القصيدة “انتهت في ليلة، إلا بيتا استعصى ولم يتمكن منه إلا بعد يومين”. الشعر ليس كلاما كالكلام، ولن يغفر لمن يسعون إلى الانتساب إليه، حاملين قرابين منهوبة تحتفظ بفصيلة دم الحلاج والنفري ومحمد عفيفي مطر، أو بصمات نزار قباني وسعدي يوسف وقسطنطين كفافيس، فلا تصمد هذه النسخ في ظل حضور متجدّد لأصل لم يكتبه صاحبه إلا بشق النفس، وقد أخفى بمهارة “أسرار الصنعة”، وأعفى القارئ من أن يراه “خاشعا متصدعا”. يروي سليمان فياض في كتابه “ألاعيب الذاكرة” أنه كان يراقب أمل دنقل عند ولادة القصيدة، “رأيت عجبا من العجب. كان يكتب كلمة، أو يشطب كلمة، أو يكتب سطرا أو يشطب سطرا، على ورقة مطبقة بالطول وهو يتحدث معنا، وعقله في الوقت نفسه غائب عنا، وروحه يرتعد لها جسده، ويضطرب فكاه، وتتحاك أسنانه، كمن يرتجف بردا، أو يضطرم غيظا. ويظل على هذه الحال أياما، وربما أسابيع في قصيدة واحدة”. هنا صراع لا يتوقف بين الشعر والشاعر، ولا فكاك من قصيدة تطارده مهما يحاول الهرب منها، وجلا وخاشعا، ثم تنتصر القصيدة غير عابئة باستنزافها له، ولو كانت الأخيرة. لا يكف الشعر والشاعر عن هذه المناورة، ولا حيلة له في هذا التوتر المصاحب لكل قصيدة. وتقول عبلة الرويني في كتابها “الجنوبي” إن أمل دنقل “كان دائم الهروب من القصيدة.. مرّة بالنزول إلى الشارع، ومرّة بالشجار.. القصيدة دائما هي لحظات مستمرة من التوتر، بل هي كما كان يحلو له أن يردد البديل عن الانتحار.. كانت القصيدة تجربة مستمرة، حتى تفرض عليه حصارها في لحظة معيّنة دون أيّ محاولة منه لرشوتها أو الإمساك بها”. لا يتنازل الإبداع، والشعر ذروته، عن شغل الفضاء كله، فضاء العمر وفضاء الوقت، انشغال صوفي لا تشترط فيه الكتابة. ولا يرضى بمهانة الهامش، هامش العمر بعد التقاعد والاطمئنان إلى مستقبل الأولاد بكنز ما يلزمهم، وهامش الوقت بعد الفراغ من الأشغال، ولن يسعفك أن تفتح عملا كلاسيكيّا وتنوي النسخ. أعلم أنّ كلمة “مشروع” استهلكت وابتذلت، وآمل أن تكتسب طاقتها الرمزية، فيؤمن “الشاعر” بأنّ له مشروعا ولو أثمر بضع قصائد، ويهلك الناسخ عن بينة.
مشاركة :