روبرت ألتمَن.. الأب الروحي لجيل الستينات

  • 6/2/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

محمد رُضا على الرغم من رحيله قبل ست سنوات، ما زال اسم المخرج الأمريكي روبرت ألتمن يتردد في نقاشات ومحاضرات وعروض سينمائية خاصة في أكثر من مكان. لكن أكثر من أي وقت مضى، هو ماثل اليوم كأب روحي لجيل الستينات وما بعد وصولاً إلى اليوم من مخرجي ما يُعرف بالسينما الأمريكية المستقلة.هذا الحضور معبّر عنه أفضل تعبير باختيار مخرجين مستقلين حاليين، في طليعتهم بول توماس أندرسون الذي فاز بالأوسكار عن فيلمه «سيكون هناك دم»، بإهداء أفلامهم إليه من باب أنه كان من بين أهم من بسط نفوذ هذه السينما كتيار فني متكامل وقت ما كان إنتاج الأفلام المستقلة ما زال فعلاً متبعثراً وعند حدود ميزانيات لا تعلو كثيراً عن بضع مئات الألوف من الدولارات في أحسن الأحوال.ألتمَن مارس سينماه بكل اندفاع وقوّة وأنجز أفلاماً ناجحة بنجوم من هوليوود من دون أن يتنازل قيد أنملة عما يريد أن يحققه عبر أفلامه. حريته كانت كل حوافزه ونجاحاته المتوالية جعلت هوليوود راغبة في التعاون معه على الرغم من أنه كان مخرجاً صعب المراس ومعاد للسطوة المعهودة التي يحاول الاستوديو فرضها عليه وعلى سواه من المخرجين.تحت سقف هذا التعاون أنجز أفلاماً كبيرة ومهمة في مراحل مختلفة: «ماش» و«ماكاب ومسز ميلر» و«الوداع الطويل» في السبعينات، «أغبياء حب»، «اللاعب»، «بوباي» في الثمانينات و«اختصارات» و«الخباز» و«جوسفورد بارك» في التسعينات وما بعد. كذلك أنجز أفلاماً أصغر طوال تلك العقود أغلبها من النوع الذي احتفى به النقاد وعرض في المهرجانات الدولية ونال جوائز ومن بينها «كانساس سيتي» و«كوكيز فورتشن» و«كوينتنت» و«ثلاث نساء» من بين أخرى. البداية بالمسلسلات ‫وُلد كاثوليكياً وإن توقف عن أم الكنيسة في أواخر العقد الثاني من عمره. الفترة التي انضم فيها للجيش، حين كانت خدمة العلم إجبارية، كان في عداد القوات الجوية وشارك في طلعات مختلفة خلال الحرب العالمية الثانية إلى حين عودته من الحرب وتركه الخدمة سنة 1946‬. انتقل إلى لوس أنجيليس وقرر أن يقتحم مجال العمل السينمائي‪.‬ وضع سيناريو فيلم بوليسي بعنوان «الحارس الشخصي» (Bodyguard) سنة 1947 واستطاع بيعه إلى شركة RKO النشطة آنذاك وتم تحقيقه على يدي المخرج رتشارد فلايشر في العام التالي‪.‬أحدهم نصح ألتمن بأنه إذا ما أراد مهنة الكتابة لنفسه فإن مدينة نيويورك هي المكان الأنسب. شد الرحال إليها وحط سنة 1949 لكنه لم يحقق فيها أي اختراق. في العام ذاته عاد إلى مدينة كانساس سيتي ليجد عملاً في شركة أرادت تحقيق أفلام صناعية دعائية. ألتمن مارس مهمتي الكتابة والإخراج حتى منتصف الخمسينات عندما أخرج فيلمه الروائي الطويل الأول «الجانحون» (The Delinquents). كتب ألتمن الفيلم بنفسه، بهذا الفيلم عاد أدراجه إلى هوليوود حيث اشتغل على «قصة جيمس دين»، فيلم تسجيلي حول حياة الممثل المذكور الذي كان مات بحادثة سيارة سنة 1955. ألتمن وشريكه في المهمة جورج و. جورج منحا الممثل التقدير المناسب إذ عرضا قصّة حياته القصيرة وأعماله وقاموا بإجراء مقابلات مع عدد من الممثلين الذين عملوا معه في أفلامه الثلاثة «شرقي عدن» (إيليا كازان، 1955) و«متمرد بلا قضية» (نيكولاس راي، 1955) و«عملاق» (جورج ستيفنز، وهو الفيلم الذي ظهر بعد عام من مقتل دين).هذه الحقبة علّمته الانضباط والانخراط في العمل المبرمج. لكن روح المخرج كانت وثّابة لتحقيق أفلام سينمائية خارجة عن الشروط التقليدية. هذا ما دفعه للعودة إلى السينما ولو على دفعات. في العام 1966 تقدم المنتج وليام كونراد باقتراحين لشركة وورنر. الأول مشروع فيلم حول الهبوط على سطح القمر عنوانه «العد التنازلي» (Countdown) والثاني أن يقوم ألتمن بإخراجه. في العام نفسه باشر تصوير الفيلم وانتهى بخلاف بين ألتمن والشركة التي طلبت منه إعادة توليف الفيلم من ساعتين وعشر دقائق إلى نحو تسعين دقيقة. برفض ألتمن الخضوع لطلب الشركة مارس حقه كمخرج له وجهة نظر عليها أن تسود العلاقة بين الفيلم والجمهور. هذا الكلام لم يعن شيئاً لوورنر فقامت هي بالإشراف على مونتاجه وقلّصته بالفعل إلى 101 دقيقة.عُرض في مدن قليلة حول العالم حينها. في أمريكا استقبلته نيويورك وبعد أشهر لوس أنجيليس ذاتها. في بيروت تم عرض الفيلم في العام التالي لإنتاجه. كذلك في ألمانيا وبريطانيا في عداد حفنة بلدان أجنبية قامت بتوزيعه.أتبع ألتمن هذا الفيلم بدراما عاطفية مختلفة تماماً عنوانها «ذلك اليوم البارد في الحديقة» The Cold Day in the Park مع مايكل بيرنز وساندي دنيس التي عادت ولعبت تحت إدارته في أفلام لاحقة.هذا الفيلم (يحكي عن امرأة وحيدة استرعى انتباهها شاب أصغر منها وحيداً في الحديقة فتدعوه ليعيش معها) كان آخر فيلمين يمكن القول فيهما أنهما، في نهاية المطاف، ورغم حرص المخرج على بصمته، ليسا بالأهمية ذاتها بالنسبة إليه من فيلمه المقبل وصاعداً، وليسا كذلك من تلك الأعمال التي لفتت الأنظار إليه وألهبته بسياط النجاح نقدياً أو تجارياً.‫الفيلم هو «ماش» M.A.S.H سنة 1970 والكلمة هي الأحرف الأولى من «المستشفى الجراحي العسكري المتحرك» Mobile Army Surgical Hospital وهو التجسيد الأول لأسلوب ألتمن الفريد في صياغة أعماله وإدارة ممثليه: كوميديا هازئة من الحياة العسكرية الأمريكية وجبهات القتال (تقع أحداثها خلال الحرب الكورية) بطلها ثلة من الأطباء العسكريين غير المكترثين كثيراً لواجباتهم. ‬الحكاية هنا، كما في أفلام لاحقة لألتمن سنمر عليها، لا فصولاً سردية لها. لا تمهيد وحبكة وسيناريو مؤلف من الفصول الكلاسيكية الثلاثة. بل أرض مستشفى عسكري نصبت فيها الخيم وقام الأطباء (دونالد سذرلاند وإليوت جولد وتوم سكيريت وسالي كيلرمان) بممارسة مهامهم بكثير من المفارقات المبعثرة مع كم كبير من الحوار. ألتمن، كما في باقي أفلامه، يعمد إلى منح العمل مرجعيته الواقعية بجعل الشخصيات تؤم تمثيلاً طبيعياً وتتكلم في الوقت نفسه (تماماً كما يقع في الحياة العادية). هذا أثار أعصاب ممثليه فلجأ سكيريت وسذرلاند وجولد إلى شركة فوكس طالبين منها استبدال المخرج. فوكس كانت مشغولة بفيلمين كبيري الحجم هما «باتون» (إخراج فرانكلين شافنر) و«تورا.. تورا... تورا» (رتشارد فلايشر وكينجي فوكاساكو) ولم يكن يهمها فيلم صغير الحجم بالمقارنة فرفضت الشكوى. عندما علم ألتمن بالوشاية (صارحه جولد) صرف النظر عن العمل مع توم سكيريت ودونالد سذرلاند للأبد. أما غولد فمنحه لاحقاً بطولة فيلم «الوداع الطويل» (1973). سنة 1970 كانت الحرب الفيتنامية لا زالت مستعرة (كان الرئيس رتشارد نيكسون صرّح بأنه سيخفف من حجم الوجود الأمريكي في تلك البلاد وتم سحب بعضها بالفعل، لكن القتال كان لا يزال حاداً وانتهى بالانسحاب الكامل سنة 1973. لكن خلال تلك الفترة (وعملياً منذ أواخر الستينات) أقدم مخرجون عديدون على تناول الحرب الفيتنامية مباشرة أو مغلّفة. في الحالتين فإن معظم هذه الأفلام كانت ضد الحرب. وغير المباشر منها ارتدى رداءات مختلفة (وسترن، بوليسي وكوميدي). أخرج ألتمن «الوداع الطويل»: اقتباس لرواية من تأليف الكاتب البوليسي رايموند تشاندلر وبطولة شخصيته الخيالية التحري فيليب مارلو (يقوم بها هنا إليوت جولد). وأول ردّة فعل للعارفين بأسلوب الكاتب شاندلر وبصياغته لشخصيته، الطريقة الساخرة والمنتقدة التي عامل بها المخرج تلك الشخصية. أخرجها من كلاسيكيتها ومارس عليها ترجمته الخاصّة فإذا به، عبر ذلك، ينتقد أمريكا من خلالها كما فعل في «ماكاب ومسز ميلر» إنما في نوع سينمائي مختلف.هذا النقد مارسه فيما بعد في كل أفلامه وعبر قراءته المختلفة للشخصيات التي تم للأمريكيين تأليهها واعتبارها نماذج لا يُقترب منها. علي سبيل المثال، لدينا «بافالو بِل والهنود، أو كيف دراسة سيتينج بول للتاريخ» Buffallo Bill and the Indians‪,‬ or Sitting Bull‪‬s History Lessonهذا فيلم خاص في زمانه (1976) بقي خاصّاً إلى اليوم وفيه تناول اسطورة محارب الهنود الحمر بافالو بل (قام بدوره بول نيومان) بتشريح سياسي لا اهتزاز فيه. فالصورة التقليدية الآتية مع الزمن بأنه كان مقاتلاً شجاعاً ضد مواطني أمريكا الأصليين. ألتمن يكشف عن إنه لم يكن أكثر من قاتل عنصري التبعية حشد له الأمريكيون عواطف في غير مكانها.الأمر نفسه لاحقاً مع الشخصية الكرتونية المعروفة «بوباي» (قام به روبين وليامز) سنة 1980. بدورها شخصية أمريكية محبوبة قام ألتمن بنزع التلوين عنها ليظهرها بحقيقة قاتمة ومختلفة. خلال تلك الفترة وما بعد لم يتوقف عن تحقيق أفلام ذات مكان واحد وشخصيات متعددة. «بافالو بل» كان من هذا النوع (ورد فعل الجمهور تسبب في سقوط الفيلم تجارياً). من الأفلام الأخرى في هذا المنوال «صور» (1972) و«ناشفيل» (1975) و«3 نساء» (1977) و«عرس» (1978) من بين أفلام عديدة أخرى.تلتقي كل هذه الأفلام وسواها (بصرف النظر عما إذا كانت مسرودة كقصص متنقلة أو كمواقع منفردة مع شخصيات عدّة) بإنتمائها إلى معالجة ألتمن المختلفة عن كل ما عداه. نراه يسعى، حتى في أعماله الأخيرة مثل «دكتور ت والنساء» أو «حظ الحلوى» و"جوسفورد بارك» (في أواخر التسعينات ومطلع القرن الحادي والعشرين) لتقديم صورة أخرى (لا تخلو مطلقاً من الصدق) لأمريكا. سينما ألتمن عرفت كل الأنواع الممكنة: الوسترن، التشويقي، البوليسي، الخيال العلمي والكوميدي كما تلك الدراميات المبنية على الشخصيات المنفردة، لكن المرء يجد أنه واحد في كل نوع من هذه الأنواع.

مشاركة :