لازالت ليبيا تتخبط في مشكلات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية رغم تضافر الجهود الدولية والإقليمية لمساعدة الليبيين على بناء دولة المؤسسات على أنقاض مخلفات ما بعد النظام السابق وتجاوز الفوضى التي أعقبت سقوطه والتي لازالت متحكمة في مفاصل المجتمع الليبي. فاتفاق القادة الليبيين خلال الاجتماع الذي عقد بباريس في 29 مايو الماضي، يظل محاولة مهمة ضمن خارطة طريق تضمن الخروج من مأزق الدولة الفاشلة إلى رحاب دولة مؤسسات تقوم بوظائفها وتحد من الصراعات وتحقق الأمن والأمان والاستقرار. المشكلة في ليبيا أن ارتباط مصالح شبكات باقتصاد الحرب هو ما يعرقل مسارات التسوية بين الفرقاء السياسيين، كونها (الشبكات) تستفيد من فوضى تدرّ الملايين من الدولارات. كما أن انتشار المجموعات المسلحة على طول الجغرافيا الليبية وامتداداتها المتشابكة والمتنافسة بشدة مع ناشطين في عمليات التهريب بكل أنواعه ومتدخلين دوليين يعمقان الفوضى ويسهمان في إعاقة مسارات الإصلاح السياسي والديمقراطي. عدم توقيع أي جهة على اتفاق باريس ليس دليلا مؤكدا على أن القادة الليبيين ليست لهم نية في المضي قدما نحو حل سياسي، بل إن الاتفاق في حد ذاته محكوم بمخرجات السياق الجيوسياسي الذي تم فيه اجتماع باريس سواء على المستوى الأوروبي وما ستقوم به الحكومة الراديكالية الجديدة بإيطاليا كون البلد معني بشكل مباشر بما يقع في ليبيا، أو على مستوى الحرب المعلنة على الهجرة والإرهاب في منطقة الساحل والصحراء مرورا بليبيا ومخلفات الصراع المستعر على النفوذ بين روسيا والصين والولايات المتحدة على ضفتي المتوسط. ولا نرى أن هناك تنافسا كبيرا بين الدور الفرنسي والأميركي على الأرض في ليبيا سواء على المستوى السياسي بدعم أو عرقلة مبادرة باريس الأخيرة، أو على المستوى الأمني والعسكري كون البلدين يتعاونان في أكثر من منطقة جغرافية وفي ملفات كثيرة منها تطويق التنظيمات الإرهابية مؤخرا بمحافظة دير الزور التي يتمركز فيها تنظيم داعش، وتقارب وجهات نظر البلدين حول الملف الإيراني بعدما اتهمت باريس إيران بسعيها إلى الهيمنة على المنطقة ومد نفوذها من طهران إلى المتوسط. مراقبة الوضع الليبي تحت أعين البنتاغون والأجهزة الفرنسية على الحدود مع تونس والنيجر والجزائر، ولهذا فالمادة الأمنية تتطلب مجهودا إضافيا لفهم التركيبة القبلية المعقدة وبناء معادلة واقعية واضحة لحل سياسي يوحّد البلد ويفسح المجال لتنافس قوي ومضبوط بعدما أصبح البلد مرتعا للأجندات المتضاربة والمتصارعة. وهو ما خلص إليه المعهد الملكي للشؤون الدولية في بريطانيا “تشاتام هاوس” بأن الانقسام بين شرق وغرب ليبيا يعقّد العملية السياسية برمتها، بعدما تنافس الأفراد والشبكات والمجتمعات القبلية وفي المدن على السيطرة على الأسواق غير الشرعية الحيوية في ليبيا. وفي ظل هذا الواقع المعقد هناك من يتعلل بعامل الوقت كسبب لتعطيل بنود اتفاق باريس. وقال عادل كرموس، عضو المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، إن “الفترة الزمنية المتبقية حتى نهاية 2018 قد تكون غير كافية لإنهاء عملية الاستفتاء والترتيبات الأخرى الخاصة بعملية الانتخابات”. لكن الواقع أن هناك من لا يريد للجيش الليبي أن يتدخل في العملية السياسية، وهو ما لا يمكن استساغه بسبب انتشار السلاح والميليشيات والوضع يحتاج إلى ضبط من مؤسسة عسكرية يكون لها القول الفصل في ما يتعلق بتأمين العملية الانتخابية وضمان نجاحها. عرقلة العملية السياسية المفترضة يمكن أن نرجعها إلى الكيفية التي ستتفق عليها الأطراف الفاعلة في الملف الليبي بشأن إيجاد الطريقة المثلى لوقف إطالة العنف المؤسس على الإفادة من الفوضى الضاربة أطنابها في جميع المناطق الليبية. وإذا كانت البعض من الأطراف الليبية والمجتمع الدولي يولون عناية خاصة باتفاق الصخيرات كإطار عملي للحل السياسي فهذا من منطلق تعزيز استقرار ليبيا المتداخل والمؤثر في استقرار المنطقة ككل. إن العقوبات الدولية التي ستفرض على أي طرف يعرقل إجراء الانتخابات كما صرح المريمي، ستكون رادعا ودافعا نحو الأمام، خاصة أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية باتت مطلبا شعبيا من الصعب المخاطرة به أو عرقلته. ويبقى هذا مجرد كلام إذا لم يتفق الجميع على تعريف الإجراءات العملية للتعامل مع القوى المختلفة التي تستفيد من امتيازات اقتصاد الحرب وتعمل ليل نهار للسيطرة على كل ما له علاقة بالكسب غير المشروع في مجالات النفط والغاز والنقل والحدود والتهريب بكل أنواعه. وذكر البيان الختامي لاجتماع القادة الليبيين في باريس أن “الأطراف الليبية تلتزم الموافقة المسبقة على نتائج الانتخابات، كما أنها تلتزم بنقل مقر مجلس النواب والعمل على توحيد المؤسسات العامة”. وهنا نتساءل هل إجراء الانتخابات في 10 ديسمبر القادم محدد كاف لاستتباب الأمن والاستقرار على كافة التراب الليبي. لا يكفي هذا الإجراء لكنه الخطوة الأساسية لتفعيل بنود أخرى وتحقيق شروط الانتقال إلى دولة المؤسسات وليس دولة الميليشيات والمجموعات. لا نتوقع المرور إلى السرعة القصوى في تطبيق الحل السياسي بليبيا دون الرجوع إلى ما تم التوقيع عليه في اتفاق الصخيرات بالمغرب في ديسمبر 2015، لتجاوز الانقسامات السياسية والأزمة الاقتصادية الخانقة، بمعنى أن اتفاق باريس لن يكتب له النجاح ما دامت بذور إفشاله قائمة في التصورات ومن خلال الأجندات والسيناريوهات المتصارعة حول مستقبل البلد. وهذا ما يدفعنا إلى التأكيد على أن تقوية سلطة الدولة الليبية على كافة المستويات تمر عبر الانكباب الحقيقي على تقييم منطقي لمسببات فشل المبادرات الدولية والإقليمية والمحلية الساعية لإيجاد حل سياسي فعال، حتى يتم إرساء نظام سياسي مستقر ودولة مؤسسات تحتكم لقوة القانون.
مشاركة :