إدواردو غاليانو من الكتاب الذين ضمهم كتاب “حياة الكتابة” حيث تحدث عن قصصه ببساطته المعهودة وتذكر أعمالا كثيرة له، يختتمها باستعادة تحد كبير واجهه، فقد عايش لفترة عمال المناجم في مدينة لالاجوا البوليفية ليكتب عنهم، وفي ختام ليلة سمر طلب منه أحدهم أن يحدثهم عن البحر، أدهشهم الطلب فتبنوه جميعا وأصروا “حدثنا عن البحر”، يقول غاليانو إن الموت في سن الشباب كان قدر أولئك الذين لم يروا البحر، فكان عليه أن يأخذهم “إلى البحر البعيد جدا، وأن أجد الكلمات التي يمكن أن تبللهم حتى العظم”. الحقيقة المتخيلة يضم كتاب حياة الكتابة، الصادر حديثا في تونس عن دار مسيكلياني، مقالات ترجمها الكاتب السعودي عبدالله الزماي، لتسعة من الروائيين العالميين يستعيدون فيها أثر الكتابة في حيواتهم، مشيرين إلى البدايات والقدر الذي قادهم نحو هذا المصير. فمثلا الياباني هاروكي موراكامي”استعاد اللحظة التي أدرك فيها أنه سيكون روائيا”، وفيها يتحدث عن تفاصيل التحول الحاد في حياته التي بدأها كصاحب مقهى ثم تحول إلى روائي شهير. ويتحدث كيف جاءته فكرة روايته الأولى وهو يتابع مباراة بيسبول، ثم كيف واصل كتابتها على طاولة المطبخ ثم الطريقة التي كتبها بها ثم فوزها بجائزة. لم تنقذ الحكايات رأس شهرزاد فقط من السيف، يبدو أنها تنقذ دائما رؤوسا أخرى، منها رأس البرلماني المكسيكي فيكتور كوينتانا، الذي كشف وقائع فساد في بلده، فقرر من تصدى لهم التخلص منه بالاتفاق مع قتلة مأجورين، لكن ركلهم المتواتر العنيف له جرهم إلى حديث عن كرة القدم، وكان قد قرأ بالصدفة كتاب “كرة القدم في الشمس والظل” للكاتب الأورغواياني إدواردو غاليانو، أراد أن يطيل حياته لدقائق فحكى لهم قصة وردت بالكتاب، أعجبتهم فاستزادوه، وظل يستعير من كتاب غاليانو حتى فاجأوه بقولهم “أنت الآن في مأمن” ففكوا وثاقه وتركوه حيا أما التشيلية إيزابيل الليندي، فتبدأ بالتأكيد على أن كل كلمة كتبتها كانت حقيقية، فالتي لم تحدث سابقا ستحدث بالتأكيد لاحقا، فلا يمكنها أن ترسم حدا فاصلا بين الخيال والحقيقة، وترى أن دور الكاتب يتمثل في أن يبقي على الحقيقة المتخيلة، وتدلل بقصة قصيرة تراها تعبيرا مجازيا عن الكتابة، القصة لإدواردو غاليانو من كتابه “المُعانقات”. يحكي عن عجوز وحيد ظنه اللصوص غنيا فسطوا على بيته، فعثروا في القبو على صندوق، لكن هذا الكنز لم يكن ذهبا إنما مجموعة من رسائل الحب التي تلقاها العجوز طوال مراحل حياته، بدلا من التخلص منها قرروا أن يعيدوها إليه عبر البريد لكن بمعدل رسالة واحدة أسبوعيا، وهكذا لم يستعد العجوز رسائله فقط بل استعاد حياته. تعتقد الليندي بأن ما فعله اللصوص، يشبه ما تسميه بالقيمة العابثة للأدب، أن يأخذوا شيئا واقعيا وبحيلة سحرية يحولونه إلى شيء جديد تماما. أما مواطنها روبرتو بولانيو فيتحدث عن المنفيين، ويذهب إلى أن آدم وحواء كانا أول من تعرضا للنفي، فقناعته أن الأديب يحمل منفاه داخله سواء حمل أمتعته ورحل عن الوطن وهو في مستهل صباه أو لم يغادر موطنه قط. ويرى أن المنفى هو المقياس الحقيقي لكل كاتب، فبعض الكتاب يرون في مغادرة منزل العائلة منفى، وبعضهم يراه في مغادرة المدينة التي نشأ بها، وبعضهم لا يراه إلا في مغادرة الوطن، وهو يرى أن مغادرة الطفولة بحد ذاتها منفى، وكل كاتب يصبح منفيا حين يكتب والقارئ كذلك يصبح منفيا بمجرد أن يفتح كتابا. أما البيروفي ماريو بارغاس يوسا، فيبدأ بالحديث عن الخوف من الطيران، فبالرغم من أنه اعتاد ركوب الطائرات كما يبدل قمصانه، إلا أنه “ينضح من العرق في كل رحلة ما يملأ دلاء”، فكر في الاستفادة من تجربة شبيهه في الخوف من الطيران للكاتب الأورغواياني كارلوس مورينيو، الذي استغرق مدة طيرانه الأول في قراءة “مدام بوفاري” فأصبحت بالنسبة إليه تميمة تضمن الوصول بسلام، حتى منحته الصدفة خلال سفر ما رواية “مملكة هذا العالم” لأليخو كاربنتيير، الكتاب استغرق مدة الرحلة فكان طوال الوقت بعيدا عن مخاوفه، حينئذ اكتشف العلاج الناجع الذي لم يخب قط، لكن عليه أن يحسن اختيار التحفة الروائية التي تستغرق الرحلة. كيف أصبح يوسا وغاليانو والليندي وباموك كتابا استثنائيين كيف أصبح يوسا وغاليانو والليندي وباموك كتابا استثنائيين أرض القصص تتحدث التركية أليف شفق عن طفولتها، “كنت طفلة وحيدة وحزينة، ومن البوابة الخفية خلف رتابة الحياة اليومية عبرت إلى أرض القصص.. في ذلك المكان الغريب لم تكن الأمور مقيدة بقواعد المجتمع، أو بحدود ثقافة الفرد وتقاليده، بل لم تكن مقيدة حتى بقواعد الفيزياء، حيث يمكن للماء أن يتكرر ويمكن للأنهار أن تغير مجراها إن شعرت بالملل من استمرار التدفق في اتجاه واحد محدد. كل شيء في أرض القصص كان ينبض بالحياة، كل شيء مهما بدا صغيرا لديه قصة تستحق أن تروى”. أما أورهان باموك فيتحدث عن متحف البراءة، ساردا تفاصيل كتابة الرواية، وأنه كان يفكر في الرواية والمتحف معا، “لقد قمت بكتابة الرواية وأنا أفكر في المتحف، وأنشأت المتحف وأنا أفكر في الرواية، لقد ابتكرت كلا من المتحف والرواية في نفس الوقت، وفسرت هذا الارتباط المعقد بينهما في الرواية”. أما آخر حائزي نوبل للآداب الروائي البريطاني ذو الأصل الياباني كازو إيشيجور فيتحدث عن روايته “بقايا النهار”، وتفرغه التام لها والتحضير لمشروعها الروائي حتى أنجزها في أربعة أسابيع، مُوضحا أن الفيلم الذي شاهده في السبعينات من القرن الماضي ألهمه بطله بنحت شخصية ستينفز رئيس الخدم في الرواية، ويبدي رأيه عن توقيت الكتابة مقتنعا بأن البدءَ في الوقت المبكر قد يسبب القدر نفسَه من الضرر الناجم عن البدء متأخرا للغاية. وعن تجربته في كتابة رواية “حياة باي” يذكر يان مارتل ثلاثة أسباب هامة لكي تكون الكتابة ناجحة، وهي التأثر والإلهام والعمل الجاد، ويقول في باب العمل الجاد “لم يكن التدوين اليومي على الصفحات دون عقبات، ولم يَخلُ من لحظات الشك والأخطاء والتنقيح، ولكن دائما، بعمق ومتعة تثلج الصدر، وبالإيمان بأنه مهما كان مصير الرواية، فإنني سأكون سعيدا بها، لقد ساعدتني على فهم العالم، الذي أعيش فيه بشكل أفضل نسبيا”.
مشاركة :