الكتابة حنين سائل، والذات أكبر وأعمق ينبوع يتفجر منه ذلك الحنين، وهنالك في الأعماق، تتفاعل التجارب الإنسانية والذكريات والتخييل الذاتي، فيما بينها، وما الكلمات الناتجة من ذلك التفاعل سوى المزيج الذي سنطلق عليه عملا إبداعيا فيما بعد، بغض النظر عن التصنيف الذي يندرج تحته. رواية كان أم قصيدة أم مسرحية. وبما أن منطلق الحوار هو الذات، فسأستند في مشاركتي إلى «مكة» أو «أم القرى» أو «ماكة» كما وردت في اللغة الكردية الايزيدية ومعناها الأم. ففيها تكونتُ، وبها اتحدتْ الذات. وحين يكون الحديث عن مكة ينهدم جدار الصمت، وأتحول إلى كائن ثرثار، مع العلم بأني مخلوق من عجينة الصمت. وأستطيع الزعم الآن بأن ذلك الصمت كان له الفضل الكبير في ممارستي اللهو بالكلمات فيما بعد، فمنذ صغري، وأنا ألهو بألعابي وحيدا، وفي صمت لذيذ. على سطح منزلنا الكائن في الجبل، كنت أنعزل، تارة لممارسة لعبة غريبة، وتارة أخرى للرؤية، كان الجبل يمنحني مطلا رائعا لمشاهدة البيوت التي في الأسفل، والشوارع، والمدارس والمساجد، والجبال الأخرى المقابلة للجبل الذي أسكنه. في تلك المشاهدة كان خيالي يتسع باتساع الأفق الذي أراه أمامي، لا بد أن في كل بيت من تلك البيوت قصة، وفي كل شارع كذلك، نمت ذاكرتي مع نمو مخيلتي، كان الجبل بمثابة الفناء لمنزلنا، ثم اتسع الفناء حتى أصبحت مكة كلها فناء لمنزلنا، مكة بكل حاراتها وأزقتها وجبالها، وأوديتها ونسائها ورجالها، والنساء بشكل خاص ومحبب، وبدأ التخييل الذاتي يلتصق بوجداني أكثر، ومارست الحكاية قبل أن أفكر في الكتابة -الكتابة هنا بمعناها الإبداعي- صنعت الكثير من الحكايا بيني وبين نفسي، وكنت أكمل الأحداث الحقيقية في ذاتي، فأصنع منها أكثر من حدث وبأكثر من شكل، ونهاية، وكثيرا ما كنت أترك النهايات مفتوحة، حتى يتسنى لي أن أكمل الحكاية في المرة المقبلة. وقتها لم أكن أدرك أو أعيّ بأن وراء تلك الحكايا ملهمة على شكل مدينة، مكة كانت ملهمتي. وحين كتبت رواية منبوذ الجبل تجلت لي مكة وتدفقت من بين السطور، وأدركت أنها كانت تتشكل في اللاوعي، وكانت تمنحني تلك القصص القصيرة التي تقصها لي كل ليلة وكل صباح، بل وفي كل وقت، حتى نتبادل الأدوار، وأحكي لها حين أكبر، في كل يوم قصة. تلك المكاشفة ولدت أثناء الكتابة، وشعرت بمسؤولية أن يحمل الكاتب مدينة على كاهله، لقد كنت أحمل مكة، ولكن ليس على كاهلي، بل في ذاتي، وعندما بدأت الكتابة اتحدنا، وحلّ أحدنا في الآخر. وكما أن الكتابة حنين سائل، فهي مرآة ومكاشفة، وهي أكثر ما نحتاجه لمعرفة ذواتنا واكتشافها بشكل أدق، والمتعة التي يجدها الكاتب وهو يمارس اكتشاف ذاته عبر منظار اللغة، ستغريه بالمزيد من الاقتراب من اللغة، والالتحام بها. وبين متعة المكاشفة ودهشتها تتحول الكتابة بالنسبة لي، إلى سيرة روحية، بمجرد أن أغمس ريشتي في محبرة الذات، وأحركها على الأوراق. نحن نكتب ذواتنا في كل مرة نجلس إلى طاولة ندلق عليها حبر أرواحنا، إننا نكتب ما نحلم أن نكون عليه، مستقبلا، أو ماضيا. وهذه سيرة ذاتية موازية، إن صح التعبير. والذي يحدث في كثير من الأحيان هو أن الكتابة تندفع خارجة بي عن المسار المحدد مسبقا، نحو عوالم لم تكن ببالي قبل لحظة التدوين. وحين أفيق وأبدأ بتحسس تلك العوالم الغريبة، أشعر أني بيني وبينها صلة ومعرفة من نوع خاص، وأكاد أجزم بأنها أكثر التصاقا بي من العالم المحسوس الذي أعيشه. وبعبارة أخرى أستطيع القول بأنها سيرتي الذاتية الغائبة، والتي برزت إلى الوجود عندما وجدت ثقبا تنفد منه، وكانت الكتابة هي ذلك الثقب، وسأسميه الثقب الأبيض، الذي يولد منها الكُتّاب، ثم يعودون إليه. هذه التسمية تقودني إلى مقولة أطلقها ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة، تتعلق بمنزلة الكتابة عند القدماء، وهذه المنزلة ستقودنا إلى خطورة الكتابة، وأهمية أن يتسلح الكاتب بشتى أنواع المعرفة وأفضل أدواتها، قبل أن يخوض غمار تلك التجربة العميقة، أعود إلى مقولة الفيلسوف ول ديورانت: «بديهي أن الكتابة كانت في مراحلها الأولى شيئًا غامضًا مقدسًا، ولفظة (هيروغليف) معناها نقش مقدس». وأزعم أن ذلك النقش المقدس بدأ بكتابة الذات، وتدوين الأحداث والوقائع اليومية. ما حدث داخل الكهف الأول كان احتفالا بتلك التفاصيل اليومية الصغيرة المتصلة بالذات. وكل حدث ثانوي بسيط، يتحول بقدرة كاتب إلى حدث محوري، كما أن الخيال يتحول في يد المبدع إلى حقيقة. شارك المقال
مشاركة :