«آلام فاغنر وعظمته» لتوماس مان: كتابة الذات في شكل موارب

  • 8/25/2015
  • 00:00
  • 22
  • 0
  • 0
news-picture

كان توماس مان، بالطبع، واحداً من كبار الروائيين الألمان الذين عرفهم القرن العشرون، حتى وإن كان من الصعب تصنيف أدبه في خانة معينة... وهي صعوبة جعلت زميلته الفرنسية - البلجيكية مارغريت يورسنار تدعو ذات يوم إلى أن يُبتكر له تصنيف خاص به مضيفة: «لن يكون في هذا الأمر أي غرابة على أي حال. ترى أوَليست كل حال إبداعية حالاً خاصة. وأوَليس كل تصنيف، في نهاية الأمر، بلادة ذهنية يلجأ إليها الأكاديميون الباحثون لإحلال عموميات سهلة محل خصوصيات تتطلب منهم عملاً؟». الحقيقة أن توماس مان نفسه لم يكن أبداً بعيداً من رأي يورسنار، حتى وإن لم يفصح عن رأيه في هذا المجال بمثل وضوحها. حتى وإن كان، أيضاً، استنكف عن أن يتحدث عن عمله هو، كما تتحدث هي. كان مان يرى هذا الرأي مطبقاً على غيره من المبدعين. ومع هذا كان توماس مان، إضافة إلى كونه روائياً كبيراً (أنتج، بين روائع أخرى، «دكتور فاوستوس» و «الموت في البندقية» و «الجبل السحري»)، ناقداً كبيراً أيضاً. لكنه لم يكن ناقداً أكاديمياً بأي حال من الأحوال، بل نعرف أنه كان يكره النقد الأكاديمي كراهية مارغريت يورسنار هذا النقد. ونشر مان، في أوقات متفرقة من حياته مقالات ودراسات تتفاوت طولاً، لكنها لا تتفاوت جودة، حول عدد لا بأس به من مبدعين آخرين. نعرف أنه كان مهتماً بالأدب، لكنه كان مهتماً أيضاً بالموسيقى والرسم والفلسفة. ولنضف إلى هذا، أنه لم يكن كذلك أقل اهتماماً بالسياسة، حتى وإن كان أخوه هاينريش لامه مرات ومرات على ما وجد لديه باكراً من حيادية إزاء النازية. ليس هذا موضوعنا هنا، ولكن لا بد من أن نشير إلى أن تلك الحيادية، التي كانت نسبية على أي حال، لم تعش طويلاً لدى توماس مان، بل اختفت ما إن اكتشف هذا الأديب أخطار الفكر النازي فكتب وكان لكتاباته تأثير كبير. > في النقد كتب توماس مان أيضاً. وكانت له مساهمات أساسية ومهمة. غير أن الدراسات الأبرز التي كتبها في هذا المجال، تظل محصورة في كتاب عنوانه «ألم المعلمين الكبار وعظمتهم» نُشر في برلين سنة 1935، أي بعد عام من مبارحة الكاتب بلاده الألمانية سالكاً دروب المنفى هرباً من النازية. واللافت أن هذا الكتاب يضم، في ما يضم، دراسة عن رواية «دون كيخوته» لسرفانتس، كتبها مان فيما كان في الباخرة التي تقله إلى المنفى سنة 1934. غير أن الدراسة الأجمل والأعمق في هذا الكتاب تظل تلك التي كان توماس مان كتبها ونشرها لمناسبة ذكرى مرور خمسين عاماً على رحيل الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر. وكان عنوان الدراسة التي كتبها مان في جامعة ميونيخ، وألقاها أول الأمر على شكل محاضرة «آلام ريتشارد فاغنر وعظمته» ما يعني أنها هي التي أعارت عنوانها إلى الكتاب الشامل الذي ضمها لاحقاً مع دراسات أخرى. > منذ البداية يبدو لنا واضحاً أن توماس مان، بمقدار ما كان يكتب في هذه الدراسة، عن ريتشارد فاغنر، كان يكتب عن نفسه وعن معاناته. ذلك أن العنصر الأساس في هذه الدراسة يبدو على شكل اعتراف من الكاتب بكيفية التواجه مع الإنسان والفنان فيه. بكلمات أخرى لا يكشف هذا النص فقط عن «كيف يمكن أو تجب مواجهة الفنان والإنسان فاغنر؟»، بل عن «لماذا أواجهه على هذا النحو؟». من هنا، يبدو واضحاً أن مان، من خلال كتابته عن فاغنر، إنما كان يكتب عن ذاته أيضاً. إن فاغنر الذي يقدمه لنا توماس مان هنا، إنما يقدَّم بصفته «التعبير الفني والإنساني الأفضل عن القرن التاسع عشر». فهو في الوقت نفسه: عملاق ومتألم، أسطوري ومبتذل، فوضوي ورجعي، وطني وأوروبي، رومنطيقي وواقعي، معقد وملتبس... باختصار هو، في شكل أساس، مأسوي وشخصية مسرحية. إن ما يريد مان أن يؤكده لنا هنا ومن دون أي التباس، هو أن «فاغنر عبقري تمكن على رغم ذائقته المعلنة المتجهة صوب كل ما هو مغاير على طريقة تريستان (الشخصية المحورية في أوبراه «تريستان وايزولت») تمكن من أن يجسد موسيقياً مفهوم الإرادة الذي كان شوبنهاور خير المعبرين عنه، وأن يعبّر بتألق وعبقرية، عن ذلك الظمأ إلى الحب الذي كان شوبنهاور نفسه يعتبره مصدر الإرادة وحاضنها الطبيعي». بالنسبة إلى توماس مان، «عرف فاغنر كيف يصالح في فنه الموسيقي، القوتين المتناقضتين: قوة الأسطورة وقوة علم النفس». > لا شك في أن القارئ النبيه لهذه السطور كما وردت بقلم توماس مان، سيجد نفسه من فوره مرغماً على أن يرى في هذا النص كله، تبريراً لمحاولة جمع «الأسطورة بعلم النفس» التي عبّر عنها توماس مان بكل وضوح في رباعيته «يوسف وإخوته». والقارئ إذ يجد نفسه مساقاً إلى هذه الفكرة، يستنتج بالتالي أن ريتشارد فاغنر في هذه الدراسة إنما هو قناع لتوماس مان، الذي لا يحاول في نصه سوى الحديث عن نفسه وتبرير كتابته تلك الرباعية. أما الذي يبقى لديه بعض الشكوك في هذا المجال، فإن عليه أن يتابع تحليل توماس مان لحياة فاغنر و «آلامه» ونتاجات فنه. إذ بعد ذلك يصل مان إلى نقطة جوهرية أخرى، حيث يتابع تحليله منتقداً بعض «تلكؤ يجده لدى فاغنر تجاه كل فن من الفنون» مع أنه لا يتوانى على الدوام عن ترسيخ ما يسميه مان بتوليفة معينة تتعلق بهذه الفنون وبالعلاقة القائمة في ما بينها. ومن الجليّ أن ما يريد مان أن ينبه قراءه إليه هنا إنما هو محاولاته الخاصة لتوضيح العلاقة بين الفنون والقول أنه، إن كان ممكناً ومنطقياً وضع توليفات ما تتعلق بكل فن، فإن الأفضل أيضاً إقامة العلاقات بين هذه التوليفات، ما يعني أنه هو، مان، يرسم مثل هذه العلاقات، ليس فقط في أبعاد نظرية، بل كذلك في بنى عملية، بحيث يصبح كل فن من الفنون مندمجاً في صلب الفنون الأخرى. إن ما يشكل نقيصة لدى فاغنر، في رأي مان، يكفي القارئ أن يلتفت إلى نتاجات هذا الأخير ليجده ماثلاً. وفي هذا السياق نفسه تمكن المتابعة، مع دارسي تلك العلاقة الغريبة بين فاغنر ومان، والتي عبّر عنها هذا الأخير في هذا النص المدهش: إن توماس مان، الأمين دائماً لمبدأ تبجيل العالم البورجوازي الذي لم يكف أبداً عن وصفه والثناء عليه - بل حتى النواح على اختفائه، في أعماله - يهتم هنا بأن يحدثنا عن الكيفية التي بها انكب ريتشارد فاغنر الذي كان ثورياً حقيقياً في سنة 1848، على كتابة أعمال بورجوازية، مع أن تلك الثورة إنما قامت أصلاً كي تندد بعيوب البورجوازية. ويقول لنا مان هنا أن خوف فاغنر من انسداد الأفق البورجوازي إنما يجد التعبير عنه في تشاؤميته الشوبنهاورية الواضحة. لقد حارب فاغنر، في رأي مان، ما كان يخشى زواله. ترى، أفلم تكن هذه حال توماس مان نفسه... في مجمل أعماله؟ أولم تكن هذه حاله، بخاصة في روايته الكبرى «آل بودنبروك»؟ > إن الإجابة الصادقة عن هذه الأسئلة إنما تضعنا في صلب ما نسميه عادة «لغة الذات»، بحيث نجد أن الكاتب الكبير، أي كاتب كبير، إنما يكتب في نهاية الأمر عن نفسه، مؤيداً أو منتقداً أو مبرراً أو مفسراً، حتى ولو كانت كتابته تبدو موضوعية إلى الحدود القصوى. ولم يكن منطقياً أن يشذ عن هذه القاعدة كاتب مثل توماس مان (1875 - 1955)، كان حين كتب دراسته عن فاغنر يعيش أعمق لحظات تمزقه بين عالمين: عالم مُثل عليا كان يراه يختفي أمام عينيه تحت وقع حوافر خيول الحثالة الفاشية النازية، وعالم جديد يولد من رحم تلك الحثالة. ولئن كان توماس مان عبّر، إبداعياً، عن ذلك التمزق في معظم أعماله، فها هو هنا في هذا النص عن فاغنر، يعبّر عنه من خلال كتابته عن فنان كان يرى فيه - أيضاً - مثلاً أعلى.

مشاركة :