دمشق - حمام الجامع الأموي عند السوريين عامة وأهل دمشق خاصة ليس مجرد طيور حمام فقط، بل له معنى مقدس، يعيش في أرواحهم جيلا بعد جيل كرمز للنقاء والبركة التي يحرصون على تعليمها لصغارهم. حمام الجامع الأموي هو مزيج من الحقيقة والخيال، من الواقع والأسطورة، نسجت حوله العديد من الحكايات. وتقول الأسطورة إنه لا يمكن لهذه الطيور أن تعيش بعيدة عن الجامع الأموي يوما واحدا، فإن خرجت ماتت. وتقول أسطورة أخرى، إن حمام الجامع الأموي في دمشق يذهب في موسم الحج إلى مكة المكرمة ليحج مع الناس، ثم يعود بعد ذلك إلى ساحة الجامع. ترسم طيور الحمام وسط العاصمة دمشق لوحات فنية جميلة في سماء المدينة وتحديدا في الجامع الأموي الكبير، حيث تتزاحم تلك الطيور التي استوطنت منذ القدم في تجاويف وجدران هذا الجامع والساحات الخارجية للحرم الأموي. ومن بين هذه الطيور سلالة حمام الجامع الأموي التي تمتد للمئات من السنين ولم تنقطع منذ أن شيّد الجماع الأموي. وألّف الناس حولها الأساطير حتى قالوا إنها تحج كل سنة إلى مكة، لكنها هاجرت في الحرب هجرة قسرية ثم عادت بعد أن عاد الهدوء إلى العاصمة السورية. هذا الحمام هو مصدر للمحبة بين الناس، تراه في صحن الجامع الكبير وفي الأحياء المجاورة، يتجول بين المارة، ثم في لحظة واحدة يطير أسرابا يحلق في سماء دمشق بحيوية ورشاقة، كفرقة باليه ترقص في الفضاء. هذه الأسراب يعرفها أي زائر للجامع الأموي بدمشق، فعبر المئات من السنين، ومنذ أن شيّد المسجد منذ 1400 عام تقريبا، تشير المراجع إلى أن هذا الحمام سكن الجامع، في الكثير من الزوايا والثنايا التي يتكون منها. وتتيح مساحة الجامع الكبيرة 1500 متر مربع، وجود أماكن كثيرة يستطيع أن يعيش فيها الحمام بسلام بعيدا عن أي مخاطر قد تحيط به. قبل الأزمة مباشرة، وصل عدد الحمام الذي كان يعيش في الجامع الأموي إلى ما يقارب الأحد عشر ألفا، لكن سنوات الحرب قللت العدد كثيرا، بسبب قلّة عدد من يعتني به، وكذلك بسبب تعرض الجامع للعديد من القذائف في محيطه ما دفعه للهجرة الاضطرارية. لم تطل غربة الحمام بعيدا عن الجامع الأموي حيث بدأ مجددا يعود إلى أماكنه بعد هدوء الأوضاع في قلب مدينة دمشق، فزائر الجامع الأموي اليوم سيجد أن أسرابا من الحمام تأتي كل يوم مجددا لتنضم إلى باقي الأسراب معلنة عودتها. يعيش هذا الحمام في الجامع الأموي في باحاته الكبيرة، وكذلك في المآذن وفي جوار الجامع، كضريح القائد صلاح الدين، وأيضا في حي المسكية المجاور للجامع تماما. ينظر الدمشقيون للحمام باحترام مستندين في ذلك إلى الحمامة التي حمت النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابي أبوبكر الصديق عندما بنت عشها في باب المغارة التي دخلاها في هجرتهما من أذى قريش. ومنذ ذلك الوقت يرى الناس أن الحمامة مقدسة، فحرام ذبحها أو إيذاؤها، بل على العكس تماما، فهم يتبرّكون بها، وكثيرا ما يحرص أهل دمشق، خاصة من المناطق المجاورة للجامع الأموي، على أن يستجلبوا هذا الحمام لمنازلهم من خلال رش بذور القمح على الأسطح أو الشبابيك لكي يحط في بيوتهم للبركة. وبمرور الأيام، ولدت عادة جديدة عند أهل دمشق، تظهر بقدوم أشخاص يتبرّكون لله تعالى من خلال إطعامهم لبعض أسراب الحمام الموجودة في الجامع، فكثيرا ما يرى أناس عاديون غالبيتهم من النساء والأطفال، وهم يخرجون أكياس حبات القمح من حقائبهم الصغيرة، ثم يرشونها على الأرض لتجتمع حولها أسراب الحمام تقتات مما يجود به أهل الخير. ويبدو أن حمام الجامع الأموي أنس للبشر فلا يهرب منهم، بل على العكس يتقدم من الناس وكأنه يطلب المزيد من حبوب القمح. يعيش حمام الجامع الأموي فقط على ما يقدمه الناس من حبوب، حيث تتكفل إدارة الجامع يوميا بتقديم عشرات الكيلوغرامات من الحبوب تنثرها في صحن الجامع، وأصبحت الآن تنثر في ساحة المسكينة الملاصقة للباب الغربي للجامع أخذا بنصيحة بعض علماء الآثار. يرفرف الحمام فرحا بالناس يرفرف الحمام فرحا بالناس ويرى خبراء الطيور، أن هذا الحمام قد تناسل من الحمام الذي جاء أول مرة للجامع منذ ما يقارب 1400 عام. هذا الحمام يتميز باللون الرمادي والزرقة التي تكون على الرقبة، وهو يتشابه مع بعضه تماما، بحيث لا يمكن التمييز بين حمامة وأخرى. لم ينس سكان دمشق القديمة منظر الوفود الأجنبية وهي تشتري القمح من أحد الباعة قرب الجامع، لتنثره في الساحة فتتوافد عليه أسراب الحمام، ليقوم السياح وعشاق التصوير الفوتوغرافي بالتقاط صور بينه بكل لطف ومحبة. هذا الحمام لم يكتف بالتواجد في أرجاء الجامع الخارجية بل يدخل عدد منه إلى داخل المصلى. وكما يقول أحد المصلين، “كثيرا ما نشاهد بعضا منه وهو يطير داخل حرم الجامع أثناء الصلاة ذاتها، لكننا بتنا معتادين على الأمر ولا نستغربه”. ويوضح أحد العمال في الجامع، أن “عدد الحمام انخفض أثناء سنوات الحرب، لكنه بدأ يعود بسرعة الآن.. قبل الأزمة كان مجموع ما يوزع من قمح على الحمام يقارب الـ400 كيلوغرام يوميا، ونحن في الجامع نقوم بدورنا بجزء من هذا كواجب للضيافة، بينما يتكفل الناس بباقي الكمية”. ويضيف “هناك أناس يأتون كل يوم ويلقون بالطعام للحمام، أحيانا تأتي عائلة بكامل أفرادها ومنهم من يأتي بشكل أسبوعي أو شهري”. ويؤكد “أن الكثير من المشاهير يأتون للجامع الأموي، الرياضيون والفنانون خاصة، لكي يشاهدوا منظر الحمام في ساحات الجامع، يأتون وقت صلاة المغرب عادة، ليستمعوا للآذان الجماعي وزيارة مقام يوحنا ومشاهدة الحمام. ثم يذهبون غالبا إلى مقهى النوفرة أو خبيني قرب الجامع”. وفي رمضان، خاصة في العشر الأواخر منه، تكثر زيارة الناس للجامع الأموي لمتابعة أسراب الحمام في تحركاتها التي تشبه لوحة فنية راقصة، وتكون العلاقة بين الناس والحمام ذات بعد روحي وإنساني موغل في القدم.
مشاركة :