أثارت القرارات الأميركية الأخيرة المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي التساؤل التالي: كيف يفكر العقل الأميركي؟ لأنه بالنظر إلى حجم مصالح واشنطن في المنطقة، خصوصاً لدى العرب، لا يتوقع أن تتخذ أي إدارة قراراً يعرضها للخطر. فما الذي تغير في العقل الأميركي ليجعل الرئيس دونالد ترامب يتخذ مثل هذا القرار الخطير؟ وللتعرف إلى كيف يفكر العقل الأميركي لا بد من معرفة ما يسمى في العلم محددات أو عوامل تشكيل الكيفية التي يفكر بها هذا العقل بعامة وتجاه قضايا الشرق الأوسط بخاصة. أول تلك العوامل هو أن خريطة التفكير الأميركية سياسياً وشعبياً تعتمد على الفكر الليبرالي بعامة والمحافظ بخاصة، وكلاهما يستمد بعض جذوره من الثقافة الأنكلوساكسونية البروتستانتية، وبالتالي فإن الفكر الديني حاضر بقوة في خريطة التفكير السياسي لواشنطن خصوصاً مع توغل الكنيسة المحافظة المشيخية في دوائر صناعة القرار وتلاقيها مع النخبة الصهيو- مسيحية. كما أن التحالف الصهيو- مسيحي الأميركي قائم على أطروحات الصراع الديني القائلة بحرب «هرمجدون» وإقامة الهيكل الثالث على أنقاض الأقصى حتى يهبط السيد المسيح من السماء إلى الأرض مرة أخرى. هذه الرؤية ترى العرب شعوباً تمتلك موارد كثيرة وغنية لكنها تجهل كيف تستخدمها، كما أنها دول تمثل حالة الاستثناء الديموقراطي من حيث نمط الحكم وتداول السلطة، فضلاً عن أن الثقافة العربية بتقاليدها وتعاليم دينها «بربرية وهمجية وتمثل خطراً كبيراً على الحضارة الغربية»، ولهذا لا بد من حصار العرب بالمشكلات والأزمات لإلهائهم بعيداً من الغرب. وحول هذه المساحة هناك تياران سياسيان، أولهما يمثله الحزب الديموقراطي الليبرالي والآخر يمثله الحزب الجمهوري بليبراليته المحافظة. هذه الليبرالية خلقت ما يعرف في طريقة تفكير العقل الأميركي بمبدأي النفعية والبراغماتية، وهما يفسران الانتهازية التي تسم صناعة السياسة الخارجية والتي تجعل المصلحة الأميركية فوق مصالح الشعوب الأخرى وفوق القيم والأعراف. كما تعتمد طريقة تفكير العقل الأميركي على تأثير الحاضنة الاجتماعية التي تتميز بتعددية اجتماعية وعرقية ودينية ومذهبية لكنها تعددية تعمل في إطار الثنائية الأميركية التي يمثلها الحزبان الجمهوري والديموقراطي. وبالتالي هناك تعددية صورية في الرؤى التي تطرح حول هدف واحد؛ هو كيف تتحقق المصالح الأميركية، وفي النهاية تختلف الوسائل وتتشابه لتحقيق هدف واحد يسعى الكل إليه. كما تعتمد طريقة تفكير العقل الأميركي على ما يعرف بتأثير المخزون الثقافي، وهو هنا مخزون عدائي يدفع للهجوم والتحفز الدائم لمواجهة الآخر والسيطرة عليه، كما سيطر الأسلاف على الهنود الحمر. وهنا تُتبع الوسائل المشروعة وغير المشروعة التي تتم شرعنتها باستخدام وسائل الإعلام على تعددها، أو عملية إضفاء الشرعية من خلال الأمم المتحدة. والأمثلة على الحالين كثيرة. ويتسم العقل الأميركي بمبدأ القوة والهيمنة على الآخرين (الأغيار)، ولهذا تجد المؤسسات القوية هي الأكثر تأثيراً في صناعة القرار الأميركي، كالمجمع الصناعي العسكري الذي يشكل مع لوبي المحافظين واللوبي الصهيوني ما يسمي بقاعدة تفكير العقل الأميركي. وهذا الثالوث هو مركز صناعة القرار الأميركي عموماً وتجاه الشرق الأوسط بخاصة، وقد دشن كل ضلع في هذا الثالوث لنفسه مراكز تفكير، تصنع أفكاره واستراتيجياته لتحقيق الأهداف والمصالح الأميركية كما يراها، والترويج لهذه الرؤية في أوساط الرأي العام في أميركا والعالم من خلال وسائل الإعلام التي تتوزع ملكيتها وتوجهاتها على أضلاع هذا الثالوث. فمثلاً معهد «بروكينغز» يأتي تمويله الرئيسي من مؤسسات المجمع الصناعي العسكري وفي التوجه ذاته يقع مركز «كارنيغي» للسلام الدولي ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومؤسسة «راند» ومجلس العلاقات الخارجية ومركز «وودرو ويلسون» الدولي للباحثين ومركز «بيو» للأبحاث. وهي تقدم استشارات للهيئات الحكومية والاستخبارية، خصوصاً البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس. أما «مؤسسة التراث»، فهي أكبر مراكز الفكر المحافظ الصهيومسيحي في الولايات المتحدة، وتقدم الدعم الاستشاري والبحثي للحزب الجمهوري، ما يؤثر على اتجاهاته وحملاته الانتخابية. وبدأت المؤسسة دورها المؤثر خلال عهد الرئيس رونالد ريغان الذي استقى ملامح سياساته من أحد أبحاث المؤسسة. ومعهد «كاتو»، هو مركز آخر للفكر المحافظ، أما «مركز التقدم الأميركي» فيدعم توجهات الحزب الديموقراطي، وأثّر في شكل كبير في تشكيل إدارة أوباما وتوجهاتها في قطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية والتغير المناخي. وفق هذه العقلية يصبح الشرق الأوسط بموارده تحت مظلة الحق في السيطرة على الآخر لمصلحة التفوق الأميركي، لأن واحدة من ركائز القوة الأميركية قائمة على استراتيجية تسخير موارد وعقول الأمم الأخري لخدمة الأمة الأميركية، وهو عنصر رئيسي وحاسم للتلاقي مع الصهيونية القائمة على الفكرة ذاتها والتي تبرر السيطرة على الأغيار وفق العقيدة الصهيونية. وهي الأطروحات التي يتبناها المجمع الصناعي العسكري في ظل استراتيجية نشر الأزمات والحروب في العالم، ليجد أسواقاً رائجة للسلاح الأميركي كأهم سلعة صنعت مجد القوة الأميركية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. والمراقب لما حققت إدارة دونالد ترامب من مكاسب خلال الفترة الماضية يتأكد من أن سياسة تأزيم المنطقة هي النهج الرئيسي لهذه الإدارة عكس ما كانت تفعله الإدارات السابقة التي كانت تزاوج بين سياستي التأزيم ووضع الحلول لبعض المشكلات ، وبالتالي نقل السفارة الأميركية إلى القدس العربية المحتلة هو ترجمة لهذه الطروحات الدينية والسياسية والاقتصادية. لكن، من الواضح أن هذه الرؤية وتلك السياسة مغلوطة ولا بد من مواجهتها أولاً بإصلاح ذات البين العربية، والعمل على حل كثير من الأزمات والمشكلات العربية بالاتجاه نحو المزيد من التشبيك والاندماج العربي وليس فقط التعاون المشترك، والعمل على تعديل عملية إدارة الحكم لدينا لتصبح أكثر ديموقراطية مع وضع حلول تطبق فوراً لمشكلات التطرف الديني والإرهاب في المنطقة. هذا فضلاً عن السعي الجاد لتنمية بلداننا في شكل علمي واقتصادي يعتمد على ما لدينا من موارد وإعطاء أولوية لعمليات التصنيع والتنمية البشرية. والأهم هو العمل بكل السبل، من أهمها بناء جيوش عربية قوية قادرة على حماية بلدانها، لمنع استمرار الوجود العسكري الأميركي على الأرض العربية، لأنه جاء بمزيد من الأزمات والمشاكل للعرب أولاً، فضلاً عن استنزاف ثرواتهم. * كاتب مصري
مشاركة :