من الغيبة الصغرى إلى غياهب الجب

  • 12/5/2014
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لوح صاحبنا العزيز الوفي بيده مودعاً وانا متجه الى صالة المغادرة وظل صاحبنا يلوح بيديه الى ان تواريت عن ناظريه. ركبت الطائرة وبعد عشر دقائق من جلوسي على الكرسي واذا بي افاجأ بإعلان من المسؤول عن الطائرة ان اقلاعنا سوف يتأخر قرابة الساعة او الساعتين والذي كان من المقرر ان يكون في الـ 10 صباحا بتوقيت غرينتش، إذ حاول الفنيون في المطار خلال هاتين الساعتين إصلاح العطل الذي أصاب الطائرة. أحببت وانا منتظر في الطائرة ان اشاكس صاحبنا برسالة ساخرة اذكره ببعض الذكريات الجميلة التي مرت علينا بعد قرابة اكثر من عقد من الصداقة الحقيقية، وان كانت مرت بصعود وهبوط الا انها ظلت متينة. فتحت ستارة نافذة الطائرة وبدأت اكتب واكتب وغصت في الرسالة ولم اشعر بما يدور حولي حتى انتهيت منها على صوت مسؤول الطائرة يعلن عن اصلاح العطل ويطلب منا الاستعداد للاقلاع وربط الاحزمة. استهللت فيها الرسالة بقولي: من الغيبة الصغرى إلى غياهب الجب. لم تكن هذه البداية يا صاحبي وإنما هي سلسلة سرمدية من الابتلاءات ابتدأت من غرفة الكمبيوتر بمدرسة الفيصلية، كنت جالسا في زاوية الفصل وهو بجواري فمد إلي ورقة فيها قصيدة يدعي أنها له ويطلب رأيي فيها، فقرأتها وأعجبت بها وشجعته على الاستمرار وكان يهز رأسه والابتسامة تعلو وجهه. إلا أن القصيدة لم تكن إلا أغنية الفنان الكبير كرامه مرسال قبل أن تغنيها الفنانة أنغام وتشتهر وهي: «متيم بالهوى يروي حكاية حب مخفيّة مع من عاش وياهم ولولا الأمر ما يحوي ما قلت الذي بيّه ولكن بعد فرقاهم لقيت القلب يهواهم» بعد هذه الفاجعة المأساوية التي أثرت في نفسيتي أصبح صاحبنا قدري الذي لا يفارقني. وأصبح يعاملني معاملة الأسير الذي يدعو الله كل يوم أن يطلق سراحه وتمنح له الحرية. فبعد التخرج من الثانوية هربت منه إلى جامعة الملك سعود، كلية العلوم الادارية قسم العلوم السياسية، فوصلني صيته قبل أن أراه فلم يسلم منه أحد حتى عامل الكافتيريا فقد ناله ما ناله من الابتلاء. حتى ان عامل الكافتيريا كاد يصاب بجلطة في الدماغ لولا لطف الله به ورحمته. ثم مكثنا في الجامعة ما شاء لنا أن نكون، ثم تخرجت في الجامعة وعملت في الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض في قسم الدراسات الاستراتيجية، وإذا بصاحبنا مختبئ في «شوشة» عصام السوداني سكرتير مدير القسم. بعد قرابة السنتين من العمل سويا في الهيئة، حيث كان مكتبه بجوار مكتبي تركت له الجمل بما حمل امتثالا لقول الله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة). سافرت إلى كندا مدينة فانكوفر - اجمل مدينة في العالم، ولا ازال احن كثيرا لتلك الايام الجميلة التي عشتها فيها - وإذا بي أفاجأ بصاحبنا يردد دعاء السفر وكرشته تزاحم كرسيي. فليس كل ما يتمناه ابن عثيمين يدركه تجري رياح صاحبنا من ورا خشمي. فلما أرهقني من «كبسة التونة» صعودا اتخذت ناصية رصيف غبي، أهل عبراتي عليها، ثم لملمت جراحاتي وما تبقى من «نوتيلا بنانا»، وودعت مطعمي المفضل «كاكتوز» وأقلتني أول طائرة الى أرض الضباب، وكما يقول فنان العرب ابو نورة: أسافر عنه من ديره لديره عساي أسلاه لكن ما حصل لي. أقل صاحبنا أول طائرة ووجدته وانا قادم من مكتبة الجامعة، فتحت باب العمارة واذا بصاحبنا ينتظرني بصحبة «مورين» المسؤولة عن سكن (الكينن هاوس)، وسكن في نفس الدور الذي كنت ساكنا فيه في الدور الرابع. قلت بيني وبين نفسي: هل أصرخ في قلبي صرخة قوية توقظني من هذا الكابوس الطويل السرمدي؟ أم هل أطبع قبلة اعتذار فوق جبينه عله يعتقني، ويمنحني حريتي التي سلبت منذ اغنية متيم، وأصبحت بعدها متيما بالحياة نفسها التي نسيت طعمها ولونها ورائحتها؟. خرجت من العمارة وتركته مستلب الحول والقوه إلا من الله سبحانه وتعالى، وبدأت خطاي تقودني إلى اللا عنوان، أمشي وأمشي حتى وصلت الى مسجد الجامعة القريب من كليتي والقريب من وسط المدينة بل انه في وسط المدينة، دخلت المسجد ثم جلست في ناصيته على كرسي شيخنا الدكتور سعيد العراقي بعد أن صليت ركعتين تحية المسجد، ثم حملت القرآن وبدأت أقرأ وما أن وصلت إلى قوله تعالى: (إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) إلا ودخلت بلا شعور في موجة بكاء طويلة، أصيح وأكرر بلا وعي: إلا صاحبنا يا رب ابتلاء في الدنيا وعذاب في الآخرة. إلا أننا سنظل يا صاحبي العزيز بذاكرتنا المثقلة باللحظات الجميلة نستحضر روح تلك الاوقات الطاهرة، نقرأ عليها الفاتحة، نصلي لتلك الايام الجميلة ان يبارك فيها، ويجعلها تظللنا في ظله يوم لا ظل الا ظله، ثم نغترف من طهر تلك اللحظات علها تروي نبتات مستقبلنا، الذي سيكون بإذن الله امتدادا لهذا الحب والود والاخوة.

مشاركة :