معرض الفرنسي سيد فرناي الذي يقام في “غاليري جوزيف شارلو” بباريس ليس ككل المعارض، فهو أقرب إلى “الشو روم”، حيث يشهد الحاضرون مباشرة عملية الخلق من بدئها حتى منتهاها، باعتماد البيكسل، ويكتشفون كيف تُحوّل يد الفنان الماهر أشياء عديمة القيمة إلى لوحات رائعة. ولد سيد فرناي (واسمه الحقيقي سيدريك فرناي) عام 1968 بمدينة سانت إتيان الفرنسية، شغف بالفنون الجميلة منذ صغره، فلما اشتد عوده التحق بمعهد نورثويست كومينيتي في كندا لدراسة الفنون، ثم تنقل عبر بلدان أميركا اللاتينية، واختار الاستقرار بالبرازيل، حيث بدأ حياته الفنية. وبعد عشر سنوات قضاها متنقلا بين مدن ريو دي جانيرو، وبرازيليا، وساو باولو، وبوينس أيرس، عاد إلى فرنسا ليتابع دروسا في الرسم في مدرسة إميل كول الشهيرة بمدينة ليون الفرنسية، ثم اختار البيكسل كأداة تعبيرية، وبدأ عرض تجربته الفريدة في فرنسا وسويسرا والأرجنتين والبرازيل، وسرعان ما حاز شهرة عالمية. والبيكسل هو إدغام للعبارة الإنكليزية picture element، أي عنصر صورة، بمعنى مساحة مربعة تقريبا وملونة تتخذ مكونا لكل إبداع في هذا المجال، ما يستوجب البحث عن جمالية يكون لكل بيكسل فيها أهميته، دون أن يعكس بمفرده معنى، أي أن تفاعله مع العناصر الأخرى لتشكيل منظر عام أو بورتريه هو الذي يعطيه تلك الأهمية، فإذا صار من السهل التعرف على دلالته منفردا فقدَ شرط تَحوّلِه إلى بيكسل آرت. والبيكسل آرت، أو فن البيكسل، هو في الأصل تشكيل رقمي يستعمل تحديدا أدنى للشاشة، وعددا محدودا من الألوان. وإذا كانت بعض تقنياته تذكر بالأشكال الفنية القديمة كالفسيفساء وأفاريز التطريز والزرد، فإنها تنهل بالأساس من تعدد أشكال الوسائط الحديثة في المادة الواحدة، تعددٌ تساعد رؤية الإنسان وعقله في تمثله، وتجميع أجزائه ليعطي الكلَّ معنى، أي ليوحّد مجموع البيكسلات المصطفة بطريقة فنية في شكل صورة يحدّد في ذهنه أبعادها، ويحفر في ذاكرته عن صاحبها أو دلالتها. وظهر مصطلح البيكسل آرت مع شاشات الحواسيب الأولى وألعاب الفيديو التي رافقته في مطلع سبعينات القرن الماضي، مثل سوبر بانت، وكمبيوتر سبيس، ولكن استعماله لم يعد إلى الواجهة إلاّ في مطلع القرن الحالي. PreviousNext أما تطبيقه فقد بدأ بمرحلة “بدائية” كانت الخطوط الإلكترونية فيها تماثلية، على شاشات ذات أشعة موجَّهة، ثم انتقل إلى المرحلة الإلكترونية، حيث تستند الصور إلى حاضنة بيكسل مخصوصة، لها طول وعرض ثابتان، ثم طرحت مسألة كيفية إنجاز صور أو بورتريهات بكمية محدودة من البيكسلات والألوان. في تلك الفترة، أي في ثمانينات القرن الماضي، لم يكن مبتكرو ألعاب الفيديو ملقِّمين، أي اختصاصيين في تلقيم الحاسبة الإلكترونية، بل كانوا راسمين، أي اختصاصيين في إعداد مشاريع للأشكال والتعابير الخطية، ولم تكن الآلات آنذاك تملك من القوة ما يسمح بمقاربة فنية حق، إذ إن أغلب التعابير والتمثلات كان بسيطا وسطحيا، يتبدى دائما على خلفية سوداء. ورغم ذلك بدأت تظهر أيقونات بيكسل، مثل شخصية باك مان Pac-Man، وهي عبارة عن لعبة فيديو ابتكرها الياباني تورو إيواتاني للشركة اليابانية نامكو عام 1980، تشبه شخصيتها المحورية رسما تخطيطيا دائريا. وكذلك ألعاب غزاة الفضاء التي ابتدعها في الفترة نفسها الياباني توموهيرو نيشيكادو لشركة “تايتو”، ولعبة النيازك Asteroids التي ابتكرها الأميركي إد لوغ لشركة أتاري، كامتداد لشريط حرب النجوم. واستفاد سيد فرناي من كل تلك التقنيات ليخلق عالما يؤثثه بنفسه، بأناة، قطعة قطعة، وفي “غاليري جوزيف شارلو” البرايسي، وقف الزوار يتابعونه وهو أمام لوحة ضخمة كان يثبت عليها ما يشبه الأقراص الملونة، المزودة بمغناطيس يشدها إلى السبورة. لم تكن تلك الأقراص ذات دلالة، ولكن بعد أن رصفها بطريقته، بدت أنها توحي بمنظر أو مشهد أو صورة، لا يتبينها الرائي إلاّ إذا تراجع قليلا إلى الوراء ليشملها بنظره، إذ كلما ابتعدنا عن العمل، ازداد الوجه أو المشهد وضوحا، كما هو الشأن أمام لوحة تقليدية، حين لم يكن للمنظومة الرقمية تأثير على الإنسان. وفرناي إذ يجعل البيكسل في صميم فنه، يطرح سؤالا عن مكانة الإنسان في عالمنا المعاصر، ويبين كيف أن الأشياء التي يشوبها نقص أو خلل يمكن أن تغدو جيدة مكتملة، في عالم لا يني يخضع للتعقيم والمراقبة. وأن إنسان هذا العصر، المرتبط بالشبكة أغلب أوقات يومه، الجالس أمام الشاشة بأنواعها، لا يني يتحوّل هو نفسه إلى ركام من البيكسل.
مشاركة :