في ندوة شاركت فيها وموضوعها الحملة الدولية على إردوغان والهجمة عليه من أنظمة عربية، وجدت أن المحاورين في خطابهم التحليلي ينطلقون من معطى ثقافي بحت لتفسير ظاهرة سياسية بحتة! ما أقصده هو أن سياق الخطاب الإردوغاني إسلامي بامتياز، وبالتالي فإن تحليل المراقبين المؤيدين له سيتلاقى ثقافياً (دينياً) معه، وسيفسرون سياساته بمعاييره وأدواته. كمثال، فإن المشاركين يرون في هبوط الليرة، كما يرى إردوغان، نتيجة هجمة مدروسة من الغرب الذي يريد أن تبقى تركيا دولة وظيفية خادمة للأجندة الأمريكية. وأكد أحد المحللين المشاركين أن إردوغان يدافع عن مقدرات الأمة الإسلامية. ولكي لا أطيل، أودّ أن أُسطِّر بعض النقاط الاعتراضية: أولاً، لعل الفشل في التحليل أعلاه يعود إلى تغلب النسق الثقافي على فكر المحلل، والمقصود هو الانحياز العاطفي. ولذا، فإن التحليل يجب، قدر ما أمكن، أن يكون حيادياً، وأن يعتمد على عناصر موضوعية تفسر الظاهرة ولا تقلبها لكي تناسب الهدف السياسي بل يجب أن تصححه وتُقوِّم اعوجاجه. إذا أخذنا مثال هبوط الليرة التركية، فإنه يتوجب علينا أن نبتعد، ولو نسبياً، عن العاطفة، ونرى الأسباب الموضوعية والمادية الشارحة والمفسرة لظاهرة هبوط العملة، ومن تلك الأسباب أن إردوغان يعارض ما يمكن تسميته القبول بمنطق السوق، ويرفض ما سبق أن قبل به من التزامات تعاقدية مع السوق حدّت من قدرته في مجال السياسة الداخلية المالية. وقبوله آنذاك كان سببه أن الرضوخ لقيود السوق من شأنه أن يوفر السيولة وأن يضمن الاستدانة بنسبة فوائد مقبولة، ويعطي الثقة للمستثمرين، ويرفع من نسب الاستثمار. بعبارة أخرى، يخسر من جهة ويكسب من جهة أخرى. إردوغان قرر مؤخراً، وبعد تمرسه في السلطة، أن يكسر قاعدة الرضوخ للسوق وهي القاعدة التي منحته المصداقية في سياساته الاقتصادية، وقرر أن يرضخ للظاهرة الشعبية (الشعبوية) التي ستمنحه بديلاً هو القبول الشعبي. وبما أنه على أبواب انتخابات، كان مضطراً لكسب القبول الشعبي. بالطبع، خسر إردوغان ثقة السوق بإصراره على سياسة نقدية معاكسة، وبدأ قلق رجال الاستثمار، وخوف البنوك، ورجال المال، فاهتزت الثقة بسياسته النقدية وبدأت المضاربة على العملة التي خسرت خمس قيمتها، وقد تخسر أكثر. لم يتراجع إردوغان إلا بعد لقاء حامٍ مع رئيس الوزراء، ووزير المالية، ورئيس المصرف المركزي. أقنعوه بأن لا خيار أمامه سوى القبول بمنطق السوق ورفع الفائدة والتخلي عن قراره بإخضاع البنك المركزي لسلطته. يرى إردوغان (من منطلق عقدي) أن الفائدة أمّ الشرور ويجب التخلص منها، لكنه أدرك بالممارسة أن النظام العالمي الذي صعدت فيه تركيا إلى مصاف الدول شبه المتقدمة لا يقبل بمنطقه. هذا التصادم هو الذي قلب الليرة وهز الاقتصاد.أقوال جاهزة شاركغرداختلف إردوغان مع طرح نجم الدين أربكان أن تكون تركيا إسلامية التوجه بكل معنى الكلمة. عارض توجه أستاذه وأسس حزب العدالة والتنمية ثم راح ينادي بكثير مما كان ينادي به أربكان، حتى وصفه الأخير بالتلميذ العاق! شاركغردإن رفع إردوغان لشعار الإسلام من أجل عزة تركيا عمل وقرار تركي محض، ولأهداف تركية بالدرجة الأولى، وتصوير ما يواجهه من مصاعب على أنه نتاج مؤامرة صليبية أو إمبريالية خطأ كبير وهذا ليس أمراً خاصاً بتركيا. فبريطانيا التي تُعتبر رابع اقتصاد في العالم ذاقت وبال المضاربة على عملتها عندما انضمت إلى سلة العملات الأوروبية وشعر المضاربون ومنهم جورج سوروس أن تسعير الجنيه الاسترليني أعلى من قيمته الحقيقية، فانقضوا عليه وخسرت بريطانيا في يوم واحد بليون جنيه أو أكثر واضطرت إلى الانسحاب من سلة العملات الأوروبية. لم يتحدث أحد عن وجود مؤامرة لإسقاط اقتصاد بريطانيا، بل تحدث المحللون عن الأسباب الموضوعية وأبعدوا الخطاب العاطفي، ونجحوا وازدهرت بريطانيا. ثانياً، القول إن إردوغان يدافع عن مقوّمات الأمة الإسلامية فيه جنوح إلى العاطفة ورضوخ لها بكل الأبعاد.أكمل القراءة نعرف أن إردوغان اختلف مع أستاذه الراحل نجم الدين أربكان حول توجه الأخير نحو أن تكون تركيا إسلامية التوجه بكل معنى الكلمة. وضع أربكان برنامجاً لخلق السوق الإسلامية، وحلف إسلامي يضم إيران وكل الدول المسلمة. لكن إردوغان عارض ذلك التوجه وأسس حزب العدالة والتنمية ثم نادى بكثير مما كان ينادي به أربكان، حتى وصفه الأخير بالتلميذ العاق! أردوغان يؤمن بالدولة التركية وبشعب تركيا، ويطمح لأن يوسع تجارتها ونفوذها. هو مسلم بالعقيدة لكنه تركي في الانتماء السياسي. هو متحالف مع الحزب القومي الطوراني الذي يرفع الطورانية ويرى في مصطفى كمال أتاتورك مثالاً، والطورانية هي التي قضت على الدولة العثمانية، وكرَّهت العرب بتركيا، وأسست الوطن التركي. فكيف نقول إنه يدافع عن الأمة الإسلامية وحليفه لا يؤمن بها؟! نحن أمام قيادة سياسية تركية متعارضة مثل عربة يجرها حصانان يدفع أحدهما باتجاه معاكس للآخر. لكي لا أطيل الكلام، أقول إن رفع إردوغان لشعار الإسلام من أجل عزة تركيا عمل وقرار تركي محض، ولأهداف تركية بالدرجة الأولى. كما أن تصوير ما يواجهه من مصاعب على أنه نتاج مؤامرة صليبية أو إمبريالية خطأ كبير، بل إن ما يحدث له سببه قرارات وخيارات في السياسة والمال والاقتصاد اتخذها هو شخصياً. هذه الخيارات هي التي يجب مناقشتها وتفسيرها ونقدها. ومن الخطأ جداً إدخال الدين في قرارات من هذا النوع، ومن الظلم استخدام الدين لتبرير فشل سياسات من هذا النوع. إن ما يفعله إردوغان هو قرار شعبوي على غرار ما نشاهده في بلدان أخرى تنتفض شعوبها على مفهوم السوق والعولمة، مثل اليونان التي صوتت لحزب سيريزا الشعبوي لكي يتصدى لسياسة أوروبا النقدية التي أفقرت الشعب اليوناني، فكانت النتيجة أن رضخ الحزب وبادل الشعبوية بقبول عقلانية السوق. إردوغان قبل بمعادلة السوق ثم قرر الانقضاض عليها، لكنه أُرغم على القبول بها. إلا أنه، على عكس اليونانيين، لا يزال يصرّ على أنه على حق، وأن ثمة مؤامرة! بهذا الموقف السياسي ذي الوجهين، يحصد إردوغان التأييد العاطفي للشعب، وفي الوقت ذاته، بعد رضوخه للسوق، يكسب ثقة السوق. هكذا يربح شعبوياً ويكسب اقتصادياً. الفارق أن المحللين المتنورين يفككون خطابه ويدرسون عناصر سياسته، والمحللين العاطفيين يصفقون له فرحاً. لكن عندما ينتكس أو يخسر يرتبكون ولا يجدون تفسيراً إلا كبش فداء معروف: الإمبريالية والاستعمار... والحرب الصليبية! هذه التدوينة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي رصيف22. أحمد محمود عجاج كاتب لبناني مقيم في لندن ويكتب في صحف عربية مختلفة. كلمات مفتاحية أردوغان تركيا التعليقات
مشاركة :