لمناسبة الذكرى الخامسة لثورة 30 حزيران (يونيو) في مصر، والتي كان للتيار الليبرالي الدور الحاسم فيها من خلال «جبهة الإنقاذ»، يثار السؤال المهم: لماذا فشل هذا التيار في أن يشكل القوة الرئيسية لتوجهات «الجمهورية الثالثة» التي هيمنت عليها مؤسسات الدولة العميقة، وكانت هناك توقعات بأن يستغل هذا التيار الزخم الذي وفرته ثورتا 25 يناير و30 يونيو لإنجاز هذا الهدف الذي تأخر كثيراً، لكن دائماً ما كان يتمخض الجبل فيلد فأراً. لماذا فشل التيار الليبرالي المصري بأحزابه التي تزيد على 54 حزباً في التوحد في كيان أو كيانين سياسيين فقط بدلاً من حال التشرذم التي يعيشها منذ عقود؟ والحقيقة أن خريطة التيار الليبرالي حالياً رغم تنوعها واختلافها فإنها غير مبشرة، فعقب ثورة 2011 تأسست عشرات الأحزاب الجديدة التي يؤمن معظمها بالفكر الليبرالي، بخاصة الليبرالية الاجتماعية، لكنها أحزاب تعتمد على أشخاص لا على مؤسسات حزبية وقواعد شعبية في المحافظات، وعندما بدأت تتعلم من أخطاء الماضي بتشكيلها ائتلافات مدنية كانت تلك الائتلافات الأسرع في التفكك بعدما انكشفت انقساماتها الداخلية في شكل واضح للغاية، ما ساهم في تهميش هذا التيار. كذلك، تسببت سياسات النظم السياسية منذ خمسينات القرن المنصرم وحتى الآن بإضعاف الليبراليين، إذ حصرت هؤلاء الليبراليين في بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية لا تزال غير مواتية لهذا التيار. كما أن الفكر الليبرالي الذي تحمس له البعض بغض النظر عن خلفياته التاريخية اصطدم بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم على مفاهيم الفرعونية السياسية فضلاً عن ثقافة دينية تصفه بالكفر، وكانت النتيجة أن مسار هذا الفكر وتأثيره في البيئة المحلية كانا مخالفين إلى حد كبير لمساره في البلدان الغربية والنمور الآسيوية والتي اتسمت بإيمانها بنظام الحكم الديموقراطي. ومن ثم، فالليبراليون المصريون ليسوا محظوظين، فهم يدافعون عن مبادئ الحرية والمسؤولية والاستقلال الذاتي للفرد وللدولة في مجتمع مستعد – ولو جزئياً - للترحيب بالتسلطية والفكر الأحادي، وليسوا محظوظين لأنهم يثقون بقدرة الفرد على الاختيار لنفسه وإدارة شؤونه بطريقة سليمة تحقق سعادته وسعادة المجتمع من حوله، فيما الثقافة السائدة لا تثق في الفرد، وتريد إخضاعه لعقل وثقافة جمعيين يحددان له مصيره، ويقرران له طريقته في تحقيق الذات والشعور بالرضا... في مجتمع يخاف من الحرية ولا يثق في الفرد، فإن التيار الليبرالي يواجه صعوبات كبيرة. كما أن شيوع أفكار هذا التيار ومبادئه وانتشارها بين فرقاء السياسة والأيديولوجيا أفقدا التيار الليبرالي العلامات التي ميّزته، حتى بات مهدداً بالتحول إلى تيار محروم من هوية فكرية وسياسية واضحة ومتميزة عن سائر التيارات السياسية المتنافسة على كسب التأييد في المجتمع. والسؤال الصعب الذي يواجه الليبرالية المصرية في هذه المرحلة هو ما إذا كان في إمكان هذا التيار تمييز نفسه فكرياً وسياسياً عن التيارات الأخرى بطريقة تحفظ له هويته فيما تضمن له تأييداً كافياً في ساحات السياسة ومؤسساتها؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدأ بتحديد موقع التيار الليبرالي في المجال السياسي المصري بعد 30 يونيو، وفي تقديري أن التيار الليبرالي يحتل موقعاً وسطاً بين التيارات السياسية المختلفة، وهي المكانة التي يجب على هذا التيار التمسك بها وتعزيزها. فالليبراليون يتفقون مع اليسار في التمسك بقيم الحرية والمساواة الكاملة ومبادئهما بين المواطنين، لكنهم يختلفون معه في السياسات الاقتصادية. على الجانب الآخر يتفق الليبراليون مع الإسلاميين في احترام الملكية الخاصة والثقة في المبادرة الفردية واقتصاد السوق، لكنهم يختلفون معهم بشدة في ما يتعلق بالقيود التي يريد الإسلاميون فرضها على الحريات العامة والخاصة. الوطنية المصرية كما أن عقيدة الوطنية المصرية تحتل لدى الليبراليين مكانة مركزية، فعلى أيدي الآباء المؤسسين التيار الليبرالي المصري من أمثال رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وحسين فوزي، تبلور مفهوم الوطنية المصرية بين منتصفي القرنين التاسع عشر والعشرين. بينما يطرح اليسار والإسلاميون مفاهيم الانتماء إلى القومية العربية أو إلى الأمة الإسلامية التي تذوب فيها الهوية الوطنية المصرية. وفيما كان الآباء المؤسسون الوطنية المصرية يفعلون ذلك، فإنهم لم يخاصموا انتماء ثقافياً للعرب وعالمهم الإسلامي، فكانت كتاباتهم من أكثر ما ساهم في تطوير الثقافة العربية والإسلامية الحديثة شكلاً ومحتوى، لغة وفكراً. وينظر الإسلاميون إلى العالم باعتباره مصدراً لتهديد الثقافة والقيم الإسلامية الأصيلة، وباعتباره ساحة للمنافسة والصراع بين أتباع الديانات المختلفة، وصولاً إلى اعتباره داراً للحرب تقف في مواجهة دار الإسلام. أما اليسار فإنه ينظر إلى عالم يسوده اقتصاد السوق الرأسمالي باعتباره وسيلة لنهب ثروات الشعوب وإخضاعها. وفيما يشترك الإسلاميون واليسار في التعامل مع العالم بتشكك عميق، وإن لأسباب مختلفة، فإن الليبرالية الوطنية المصرية كان لديها دائماً موقف متوازن من هذه القضية. هكذا، على الليبرالية المصرية المعاصرة أن تحتل مكاناً وسطاً بين قطبي الصراع اللذين تفصلهما مسافة أيديولوجية واسعة: وهما القوى المدنية والدولة العميقة، لتجسير الانشقاق في الصف الوطني وتوسيع دوائر انتشارها في المجتمع واكتساب المزيد من الشعبية. من هنا، يحتاج التيار الليبرالي في مصر إلى إعادة تأسيس نفسه على ثلاثة مسارات رئيسية: أولها، البناء الفكري، فحتى الآن لم يجتهد التيار الليبرالي بكل تنوعاته في إيجاد صيغة ليبرالية تتفق مع خصوصية المجتمع وتراثه الحضاري، حتى إن صورة الليبرالية لدى قطاع كبير من الشعب المصري تكمن في أنها صناعة أميركية أوروبية تحض على الابتعاد من الدين وممارسة الحرية المطلقة من دون التقيد بأي قواعد ترتبط بعادات المجتمع وتقاليده. والغريب أن البناء الفكري لمعظم الليبراليين في مصر لا يختلف مع قواعد الإسلام الوسطي المعتدل، الذي يؤمن بدولة القانون القائمة على الفصل بين السلطات واحترام جميع الأقليات الدينية والإثنية وغيرها، وهو ما يؤمن المصريون في معظمهم، مسلمين وأقباطاً، لذلك فإيجاد منهج فكري يستطيع الوصول إلى قلب وعقل كل مصري هو الخطوة الأولى لتكوين تيار ليبرالي قوي. أما الثاني فهو البناء المؤسسي، بدعوة التنظيمات الليبرالية للانتظام في تجمع سياسي عريض يضم الليبراليين من الشخصيات المستقلة بمجالات اختصاصاتها العملية المختلفة، جنباً إلى جنب مع الأحزاب الليبرالية القائمة، وكذلك أي تجمعات ليبرالية أخرى تجنباً للفرقة أو التنافسات الجزئية والمرحلية،حتى يكون لهذا التيار تمثيل قوي في صنع المستقبل. فالأمر لا يعني هنا تأسيس حزب قوي فحسب، وإنما تبني مشروع قومي ذي برنامج واضح. التنمية ومكافحة الفقر والأمية ويأتي المسار الثالث والأهم وهو بناء القواعد الشعبية، فالنجاح في الانتخابات لا يعتمد فقط على الدعاية خلال الحملة الانتخابية. ففي بلد تتجاوز فيها نسبة الفقر 45 في المئة وترتفع فيه نسبة الأمية إلى 40 في المئة، يكون سقف توقعات الناخب نحو المرشح سواء للبرلمان أو للرئاسة مرتفعاً في شكل كبير، وهذا يفسر تصويت نسبة كبيرة من الناخبين في ريف مصر للتيار السلفي الذي وعد بعض الناخبين بدخولهم الجنة إذا صوتوا لمصلحته، أو تصويتهم لـ «الإخوان» بسبب الزيت والسكر. لذلك، فبناء القواعد الشعبية للأحزاب الليبرالية يجب أن يبدأ فوراً، من خلال مشروعات للتنمية والقضاء على الفقر والأمية، بالتعاون بين هذه الأحزاب وبين جمعيات أهلية تنشأ لهذا الغرض، وبذلك يصل التيار الليبرالي إلى كل بيت، عندئذ يعرف أفراد الشعب حقيقة الليبرالية بعيداً من كل صور التزييف، وأن غرضها رفاهية الفرد وحريته في إطار دولة ديموقراطية يحكمها القانون. وهناك سيناريوان لما يمكن أن يقوم به التيار الليبرالي في هذه المرحلة. السيناريو الأول، هو انتهاج سياسة تعمل على منع تحالف التيارات الإسلامية كجبهة إسلامية موحدة في مواجهة التيار الليبرالي بخاصة أو المدني بعامة، سواء في الانتخابات المقبلة أو في ساحة العمل السياسي والعام خلال ما بعد هذه الانتخابات، وأن تدخل الأحزاب والقوى المدنية بخاصة الليبرالية في تحالف مع بقية التيارات غير الدينية والمستقلين سواء من خلال تحالف جبهة موحدة أو تحالفات حزبية بين الأحزاب المتشابهة في التوجه. وهو سيناريو مفضل في ضوء تدني شعبية الأحزاب والقوى الإسلامية بعد ثورة 30 يونيو، بخاصة أن القوى المدنية تكتسب حالياً شعبية متزايدة. كما أن هذا السيناريو سيؤدي إلى تخفيف حدة الصراع والاستقطاب وحالة الخوف من أعمال العنف وعدم الأمن في أوساط الشعب ومن ثم عودة الاستقرار كشرط أساسي لبناء نظام سياسي جديد ومستقر، ومن ثم ضمان سيطرة القوى المدنية والتيار الليبرالي على عملية بناء النظام السياسي الجديد بوضع أسس بناء الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة وضوابط استمراريتها وبما يسمح بمشاركة القوى والتيارات كافة في المجالين العام والسياسي. أما السيناريو الثاني، فهو عدم دخول قوى وأحزاب التيار الليبرالي في لعبة التحالفات في ما بينها أو في ما بينها وبين القوى والأحزاب المدنية الأخرى، وعزف كل منها منفرداً، بما يزيد حدة الصراعات في ما بينها أولاً، وفي ما بينها وبين القوى المدنية الأخرى أيضاً، وهذا يجعلها في مرمى نيران التيارات الإسلامية والسلطوية، ومن شأن ذلك أداء ضعيف في العملية الانتخابية ومن ثم في عملية بناء النظام السياسي لثورة 30 يونيو، وهذا من شأنه الدخول في مرحلة بناء الدولة الديموقراطية الحديثة في نفق مظلم يعود بالبلاد عقوداً إلى الوراء بسبب خروج الليبراليين من عملية بناء الدولة المصرية الجديدة إلى فترة طويلة. * كاتب مصري
مشاركة :